واعلم أنه تعالى لما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال تظمته ونهاية جلالته، فقال :﴿وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِه ﴾ قال القفال :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ كقول القائل وما قدرتني حق قدري وأنا الذي فعلت كذا وكذا، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت، فوجب أن لا تحطني عن قدري ومنزلتي، ونظيره قوله تعالى :﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ ﴾ (البقرة : ٢٨) أي كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه فكذا ههنا، والمعنى ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه ﴾ إذ زعموا أن له شركاء وأنه لا يقدر على إحياء الموتى مع أن الأرض والسموات في قبضته وقدرته، قال صاحب "الكشاف" الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز، وكذلك ما روي أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم تعجباً مما قال، قال صاحب "الكشاف" وإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول كل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة/ التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام ولا تكتنهها الأذهان هينة عليه، قال ولا نرى باباً في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب، فيقال له هل تسلم أن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة، وأنه إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز عند قيام الدلالة على أن حمله على حقيقته ممتنع، فحينئذ يجب حمله على المجاز، فإن أنكر هذا الأصل فحينئذ يخرج القرآن بالكلية عن أن يكون حجة، فإن لكل أحد أن يقول المقصود من الآية الفلانية كذا وكذا فأنا أحمل الآية على ذلك المقصود، ولا ألتفت إلى الظواهر، مثاله من تمسك بالآيات الواردة في ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار، قال المقصود بيان سعادات المطيعين وشقاوة المذنبين، وأنا أحمل هذه الآيات على هذا المقصود ولا أثبت الأكل والشرب ولا سائر الأحوال الجسمانية، ومن تمسك بالآيات الوردة في إثبات وجوب الصلاة فقال المقصود منه إيجاب تنوير القلب بذكر الله، فأنا أكتفي بهذا القدر ولا أوجب هذه الأعمال المخصوصة، وإذا عرفت الكلام في هذين المثالين فقس عليه سائر المسائل الأصولية والفروعية، وحينئذ يخرج القرآن عن أن يكون حجة في المسائل الأصولية والفروعية، وذلك باطل قطعاً، وأما إن سلم أن اوصل في علم القرآن أن يعتقد أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته، فإن قام دليل منفصل على أنه يتعذر حمله على حقيقته، فحينئذ يتعين صرفه إلى مجازه، فإن حصلت هناك مجازات لم يتعين صرفه إلى مجاز معين إلا إذا كان الدليل يوجب ذلك التعيين، فنقول ههنا لفظ اليمين حقيقة في الجارحة المخصوصة، ولا يمكنك أن تصرف ظاهر الكلام عن هذا المعنى إلا إذا أقمت الدلالة على أن حمل هذه الألفاظ على ظواهرها ممتنع فحينئذ يجب حملها على المجازات، ثم تبين بالدليل أن المعنى الفلاني يصح جعله مجازاً عن تلك الحقيقة، ثم تبين بالدليل أن هذا المجاز أولى من غيره، وإذا ثبتت هذه المقدملات وترتيبها على هذا الوجه فهذا هو الطريق الصحيح الذي عليه تعويل أهل التحقيق فأنت ما أتيت في هذا الباب بطريقة جديدة وكلام غريب، بل هو عين ما ذكره أهل التحقيق، فثبت أن الفرح الذي أظهره من أنه اهتدى إلى الطريق الذي لم يعرفه غيره طريق فاسد، دال على قلة وقوفه على المعاني، ولنرجع إلى الطريق الحقيقي فنقول لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الأعضاء والجوارح، إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى، فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز، فنقول إنه يقال فلان في قبضة فلان إذا كان تحت تدبيره وتسخيره. قال تعالى :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٨٢


الصفحة التالية
Icon