والمراد بالأرض أرض الجنة، وإنما عبر عنه بالإرث لوجوه الأول : أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام، لأنه تعالى قال : دوكلا منها رغداً حيث شئتما} (البقرة : ٣٥) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً لتسميتها بالإرث الثاني : أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل : هذا أورث كدا وهذا العمل أورث كدا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة، لا جرم قالوا (البقرة : ٣٥) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً لتسميتها بالإرث الثاني : أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل : هذا أورث كدا وهذا العمل أورث كدا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة، لا جرم قالوا ﴿وَأَوْرَثَنَا الارْضَ﴾ والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة الثالث : أن الوارث يتصرف فيما يرثه كما يشاء من غي منازع ولا مدافع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة كيف شاءوا وأرادوا، والمشابهة علة حسن المجاز فإن قيل ما معنى قوله ﴿حَيْثُ نَشَآءُ ﴾ وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره ؟
قلنا يكون لكل أحد جنة لا يحتاج معها إلى جنة عيره، قال حكماء الإسلام : الجنات نوعان، الجنات الجسمانية والجنات الروحانية فالجنات الجسمانية لا تحتمل المشاركة فيها، أما الروحانيات فحصولها لواحد لا يمنع من حصولها للآخرين، ولما بيّن الله تعالى صفة أهل الجنة قال :﴿فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ قال مقاتل ليس هذا من كلام أهل الجنة، بل من كلام الله تعالى لأنه لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده ﴿فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ ولما قال تعالى :﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال كما أن دار ثواب المتقين المؤمنين هي الجنة، فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش وأطرافه، فلهذا قال :﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ أي محفين بالعرش. قال الليث : يقال حف القوم بسيدهم يحفون حفاً إذا طافوا به.
إذا عرفت هذا، فنقول بيّن تعالى أن دار ثوابهم هو جوانب العرش وأطرافه ثم قال :﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ وهذا مشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح، وحينئذٍ رجع حاصل الكلام إلى أن أعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد دي درجات التنزيه ومنازل التقديس.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٨٧
ثم قال :﴿وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ﴾ والمعنى أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة، فلكل واحد منهم في درجات المرعفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه، وهو المراد من قوله ﴿وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي الملائكة لما قضي بينهم بالحق قالوا الحمد لله ربّ العالمين على قضائه بيننا بالحق، وههنا دقيقة أعلى مما سبق وهي أنه سبحانه لما قضى بينهم بالحق، فهم ما حمدوه لأجل ذلك القضاء، بل حمدوه بصفته الواجبة وهي كونه رباً للعالمين/ فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم وإنما حمد الإنعام، وأما من حمد المنعم لا لأنه وصل إليه النعمة فههنا قد وصل إلى لجة بحر التوحيد، هذا إذا قلنا إن قوله ﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ شرح أحوال الملائكة في الثواب، أما إذا قلنا إنه من بقية شرح ثواب المؤمنين، فتقريره أن يقال إن المتقين لما قالوا ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ﴾ فقد ظهر منهم أنهم في الجنة اشتغلوا بحمد الله وبذكره بالمدح والثناء، فبيّن تعالى أنه كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد، فكذلك حرفة الملائكة الذين هم حافون حول العرش الاشتغال بالتحميد والتسبيح، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة، وحينئذ يظهر منه أن المؤمنين المتقين وأن الملائكة المقربين يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتسبيحه، فكان ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بذلك التسبيح والتحميد.
ثم قال :﴿وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ﴾ أي بين البشر، ثم قال :﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ والمعنى أنهم يقدمون التسبيح، والمراد منه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالإلهية.
وأما قوله تعالى :﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فالمراد وصفه بصفات الإلهية، فالتسبيح عبارة عن الاعتراف بتنزيهه عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال، وقوله ﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ عبارة عن الإقرار بكونه موصوفاً بصفات الإلهية وهي صفات الإكرام، ومجموعهما هو المذكور في قوله ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالاكْرَامِ﴾ (الرحمن : ٧٨) وهو الذي كانت الملائكة يذكرونه قبل خلق العالم وهو قولهم ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ (البقرة : ٣٠) وفي قوله ﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ دقيقة أخرى وهي أنه لم يبين أن ذلك القائل من هو، والمقصود من هذا الإبهام التنبيه، على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة الجلال والكبرياء ليس إلا أن يقولوا ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وتأكد هذا بقوله تعالى في صفة أهل الجنة ﴿دَعْوَا هُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ﴾ (يونس : ١٠).
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٨٧
٤٩٣


الصفحة التالية
Icon