واعلم أنه تعالى لما حكى عن الملائكة أنهم يستغفرون للذين تابوا، بيّن كيفية ذلك الاستغفار، فحكى عنهم أنهم قالوا ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن الدعاء في أكثر الأمور مذكور بلفط ﴿رَبَّنَآ﴾ ويدل عليه أن الملائكة عند الدعاء قالوا ﴿رَبَّنَآ﴾ بدليل هذه الآية، وقال آدم عليه السلام ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ (الأعراف : ٢٣) وقال نوح عليه السلام ﴿رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ ﴾ (هود : ٤٧) وقال أيضاً :﴿رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلا وَنَهَارًا﴾ (نوح : ٥) وقال أيضاً :﴿رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ﴾ (نوح : ٢٨) وقال عن إبراهيم عليه السلام :﴿رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى ﴾ (البقرة : ٢٦٠) وقال :﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (إبراهيم : ٤١) وقال :﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ (البقرة : ١٢٨) وقال عن يوسف ﴿رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ﴾ (يوسف : ١٠١) وقال عن موسى عليه السلام :﴿رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ (الأعراف : ١٤٣) وقال في قصة الوكز ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَه ا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ (القصص : ١٦، ١٧) وحكى تعالى عن داود ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ (ص : ٢٤) وعن سليمان أنه قال :﴿رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا﴾ (ص : ٣٥) وعن ذكريا أنه ﴿نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا﴾ (مريم : ٣) وعن عيسى عليه السلام أنه قال :﴿رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآاـاِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ﴾ (المائدة : ١١٤) وعن محمد صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى قال له :﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَـاطِينِ﴾ (المؤمنون : ٩٧) وحكى عن المؤمنون أنهم قالوا ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا﴾ (آل عمران : ١٩١) وأعادوا هذه اللفظة خمس مرات، وحكى أيضاً عنهم أنهم قالوا ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة : ٢٨٥) إلى آخر السورة.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٩٧
فثبت بما ذكرنا أن من أرضى الدعاء أن ينادي العبد ربه بقوله يا رب وتمام الإشكال فيه أن يقال لفظ الله أعظم من لفظ الرب، فلم صار لفظ الرب مختصاً بوقت الدعاء ؟
، والجواب كأن العبد يقول : كنت في كتم العدم والمحض والنفي الصرف، فأخرجتني إلى الوجود، وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك في أن لا تخليني طرفة عين عن تربيتك وإحسانك وفضلك.
المسألة الثانية : السنة في الدعاء، يبدأ في بالثناء على الله تعالى، ثم يذكر الدعاء عقيبه، والدليل عليه هذه الآية، فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين بدأوا بالثناء فقالوا ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ وأيضاً أن الخليل عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء ذكر الثناء أولاً فقال :﴿الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء : ٧٨ ـ ٨٢) فكل هذا ثناء على الله تعالى، ثم بعده ذكر الدعاء فقال :﴿رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ﴾ (الشعراء : ٨٣).
واعلم أن العقل يدل أيضاً على رعاية هذا الترتيب، وذلك ذكر الله بالثناء والتعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس، فكما أن ذرة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكل ذهباً إبريزاً فكذلك إذا وقعت ذرة من إكسير معرفة جلال الله تعالى على جوهر الروح النطقية، انقلب من ننحوسة النحاسة إلى صفاء القدس وبقاء عالم الطهارة، فثبت أن عند إشراق نور معرفة الله تعالى في جواهر الروح، يصير الروح أقوى صفاء وأكمل إشراقاً، ومتى صار كذلك كانت قوته أقوى وتأثيره أكمل، فكان حصول الشيء المطلوب أقرب وأكمل، وهذا هو السبب في تقديم الثناء على الله على الدعاء.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٩٧


الصفحة التالية
Icon