المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ﴾ استفهام على سبيل الإنكار، وقد ذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الاستنكار، وذلك لأنه ما زاد على أن قال :﴿رَبِّىَ اللَّهُ﴾ وجاء بالبينات وذلك لا يوجب القتل ألبتة وقوله ﴿وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ يحتمل وجهين الأول : أن قوله ﴿رَبِّىَ اللَّهُ﴾ إشارة إلى التوحيد، وقوله ﴿وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ﴾ إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد، وهو قوله في سورة طه ﴿رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى ﴾ وقوله في سورة اللشعراء ﴿رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ إلى آخر الآيات، ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية في أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريقة التقسيم، فقال إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً علليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم، فثبت أن على كلا التقديرين كان الأولى إبقاؤه حياً.
فإن قيل السؤال على هذا الدليل من وجهين الأول : أن قوله ﴿وَإِن يَكُ كَـاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُه ﴾ معناه أن ضرر كذبه مقصور عليه ولا يتعداه/ وهذا الكلام فاسد لوجوه أحدها : أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً كان صضلالا كذبه مقصوراً عليه، لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل، فيغتر به جماعة منهم، ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد الفاسد، ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصومات الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يمكن ضرر كذبه مقصوراً عليه، بل كان متعدياً إلى الكل، ولهذا السبب العلماء أجمعوا على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته يجب قتله وثانيها : أنه إن كان الكلام حجة له، فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة، فوجب تمكن جميع الزنادقة والمبطلين من تقرير أديانهم الباطلة وثالثها : أن الكفار الذين أنكروا نبوّة موسى عليه السلام وجب أن لا يجوز الإنكار عليهم، لأنه يقال : إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه، وإن يك صادقاً انتفعتم بصدقه، فثبت أن هذا الطريق يوجب تصويب ضده، وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلاً.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥١٤
السؤال الثاني : أنه كان من الواجب أن يقال وإن يك صادقاً يصبكم كل الذي يعدكم لأن الذي يصيب في بعض ما يعد دون البعض هم أصحاب الكهانة والنجوم، أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله ﴿يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ ﴾ غير لائق بهذا المقام والجواب : عن الأسئلة الثلاثة بحرف واحد وهو أن تقدير الكلام أن يقال إنه لا حاجة بكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه عن إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه، وإن يك صادقاً انتفعتم به، والحاصل أن المقصود من ذكر ذلك التقسيم بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه فبهذا الطريق (تكون) الأسئلة الثلاثة مدفوعة.
وأما السؤال الثاني : وهو قوله كان الأولى أن يقال يصبكم كل الذي يعدكم، فالجواب عنه من وجوه الأول : أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللجاج لأن المقصود منه إن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه، وإن كان صادقاً فلا أقل من أن يصل إليكم بعض ما يعدكم، وإن كان المقصود من هذا الكلام ما ذكر صح، ونظيره قولله تعالى :﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ (سبأ : ٢٤)، والوجه الثاني : أنه عليه السلام كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به، الوجه الثالث : حُكي عن أبي عبيدة أنه قال ورود لفظ البعض بمعنى الكل جائز، واحتج بقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامها والجمهور على أن هذا القول خطأ، قالوا وأراد لبيد ببعض النفوس نفسه والله أعلم.
ثم حكى الله تعالى عن هذا المؤمن حكاية ثالثة في أنه لا يجوز إيذاء موسى عليه السلام فقال :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ وتقرير هذا الدليل أن يقال : إن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بهذه المعجزات الباهرة، ومن هداه الله إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذاباً فهذا يدل على أن موسى عليه السلام ليس من الكاذبين، فكان قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام على طريق الرمز والتعريض، ويحتمل أيضاً أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمة على قتل موسى، كذاب في إقدامه على ادعاء الإلهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥١٤
٥١٧


الصفحة التالية
Icon