المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿زُيِّنَ﴾ لا بد له من المزين، فقالت المعتزلة : إنه الشيطان، فقيل لهم إن كان المزين لفرعون هو الشيطان، فالمزين للشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم إثبات التسلسل في الشياطين أو الدور وهو محال، ولما بطل ذلك وجب انتهاء الأسباب والمسببات في درجات الحاجات إلى واجب الوجود، وأيضاً فقوله ﴿زُيِّنَ﴾ يدل على أن الشيء إن لم يكن في اعتقاد الفاعل موصوفاً بأنه خير وزينة وحسن فإنه لا يقدم عليه، إلا أن ذلك الاعتقاد إن كان صواباً فهو العلم/ وإن كان خطأ فهو الجهل، ففاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان، لأن العاقل لا يقصد تحصيل الجهل لنفسه، ولأنه إنما يقصد تحصيل الجهل لنفسه إذا عرف كونه جهلاً، ومتى عرف كونه جهلاً امتنع بقاؤه جاهلاً، فثبت أن فاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان، ولا يجوز أن يكون فاعله هو الشيطان، لأن البحث الأول بعينه عائد فيه، فلم يبق إلا أن يكون فاعله هو الله تعالى والله أعلم. ويقوي ما قلناه أن صاحب "الكشاف" نقل أنه قرىء ﴿زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِه ﴾ على البناء للفاعل والفعل لله عزّ وجلّ، ويدل عليه قوله ﴿إِلَى ا إِلَـاهِ مُوسَى ﴾.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٢٣
ثم قال تعالى :﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ﴾ والتباب الهلاك والخسران، ونظيره قوله تعالى :﴿وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ (هود : ١٠١) وقوله تعالى :﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ﴾ (المسد : ١) والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٢٣
٥٢٥
اعلم أن هذا من بقية كلام الذي آمن من آل فرعون، وقد كان يدعوهم إلى الإيمان بموسى والتمسك بطريقته. واعلم أنه نادى في قومه ثلاث مرات : في المرة الأولى دعاهم إلى قبول ذلك الدين على سبيل الإجمال، وفي المرتين الباقيتين على سبيل التفصيل.
أما الإجمال فهو قوله ﴿ءَامَنَ يَـاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ وليس المراد بقوله ﴿اتَّبِعُونِ﴾ طريقة التقليد، لأنه قال بعده ﴿أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ والهدى هو الدلالة، ومن بين الأدلة للغير يوصف بأنه هداه، وسبيل الرشاد هو سبيل الثواب والخير وما يؤدي إليه، لأن الرشاد نقيض الغي، وفيه تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي.
وأما التفصيل فهو أنه بين حقارة حال الدينا وكمال حال الآخرة، أما حقارة الدنيا فهي قوله ﴿سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَـاقَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا﴾ والمعنى أنه يستمتع بهذه الحياة الدنيا في أيام قليلة، ثم تنقطع وتزول، وأما الآخرة فهي دار القرار والبقاء والدوام، وحاصل الكلام أن الآخرة باقية دائمة والدنيا منقضية منقرضة، والدائم خير من المنقضي، وقال بعض العارفين : لو كانت الدينا ذهباً فانياً، والآخرة خزفاً باقياً، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٢٥
واعلم أن الآخرة كما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب فيها دائم، وإن الترغيب في النعيم الدائم والترهيب عن العذاب الدائم من أقوى وجوه الترغيب والترهيب، ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة، وأشار فيه إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب فقال :﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا ﴾ والمراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق، فإن قيل كيف يصح هذا الكلام، مع أن كفر ساعة يوجب عقاب الأبد ؟
قلنا إن الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة وإيماناً فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصراً على ذلك الاعتقاد أبداً، فلا جرم كان عقابه مؤبداً بخلاف الفاسق فإنه يعتقد فيه كونه خيانة ومعصية فيكون على عزم أن لا يبقى مصراً عليه، فلا جرم قلنا أن عقاب الفاسق منقطع. أما الذي يقوله المعتزلة من أن عقابه مؤبد فهو باطل، لأن مدة تلك المعصية منقطعة والعزم على الإتيان بها أيضاً ليس دائماً بل منقطعاً فمقابلته بعقاب دائم يكون على خلاف قوله ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا ﴾، واعلم أن هذه الآية أصل كبير في علوم الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات فإآنها تقتضي أن يكون المثل مشروعاً/ وأن يكون الزائد على المثل غير مشروع، ثم نقول ليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرة في أي الأمور فلو حملناه على رعاية المماثلة في شيء معين، مع أن ذلك المعين غير مذكور في الآية صارت الآية مجملة، ولو حملناه على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عاماً مخصوصاً، وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال وبين التخصيص كان دفع الإجمال أولى فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا في مواضع التخصيص، وإذا ثبت هذا فالأحكام الكثيرة في باب الجنايات على النفوس، وعلى الأعضاء، وعلى الأموال يمكن تفريعها على هذه الآية.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٢٥


الصفحة التالية
Icon