﴿وَأُشْرِكَ بِه مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ﴾ المراد بنفي العلم نفي المعلوم، كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكاً للإله ؟
ولما بيّن أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بيّن أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفار فقوله ﴿الْعَزِيزُ﴾ إشارة إلى كونه كامل القدرة، وفيه تنبيه على أن الإله هو الذي يكون كامل القدرة، وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهاً، وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل القول بكونها آلهة وقوله ﴿الْغَفَّـارُ﴾ إشارة إلى أنه لا يجب أن يكونوا آيسين من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة، فإن إله العالم وإن كان عزيزاً لا يغلب قادراً لا يغالب، لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة، ثم قال ذلك المؤمن ﴿لا جَرَمَ﴾ والكلام في تفسير لا جرم مرّ في سورة هود في قوله ﴿لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الاخْسَرُونَ﴾ (هود : ٢٢) وقد أعاده صاحب "الكشاف" ههنا فقال ﴿لا جَرَمَ﴾ مساقه على مذهب البصريين أن يجعل (لا) رداً لما دعاه إليه قومه و﴿جَرَمَ﴾ فعل بمعنى حق و﴿إِنَّمَآ﴾ مع ما في حيزه فاعله أي حق ووجب بطلان دعوته أو بمعنى كسب من قوله تعالى :﴿وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْىَ وَلا الْقَلَـا اـاِدَ وَلا ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ (المائدة : ٢) أي كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، ويجوز أن يقال إن ﴿لا جَرَمَ﴾ نظيره لا بد فعل من الجرم وهو القطع كما أن بد فعل من التبديد وهو التفريق، وكما أن معنى لا بد أنك تفعل كذا أنه لا بد لك من فعله، فكذلك ﴿لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ (النحل : ٦٢) أي لا قطع لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام، أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقل حقاً، وروي عن بعض العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء بزنة بد وفعل إخوان كرشد ورشد وكعدم وعدم هذا كله ألفاظ صاحب "الكشاف".
ثم قال :﴿أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الاخِرَةِ﴾ والمراد أن الأوثان التي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وفي تفسير هذه الدعوة احتمالان.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٢٥
الأول : أن المعنى ما تدعونني إلى عبادته ليس له دعوة إلى نفسه لأنه جمادات والجمادات لا تدعو أحداً إلى عبادة نفسها وقوله ﴿فِى الاخِرَةِ﴾ يعني أنه تعالى إذا قلبها حيواناً في الآخرة فإنها تتبرأ من هؤلاء العابدين.
والاحتمال الثاني : أن يكون قوله ﴿لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الاخِرَةِ﴾ معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، فسميت استجابة الدعوة بالدعوة إطلاقاً لاسم أحد المتضايقين على الآخر، كقوله ﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى : ٤٠) ثم قال :﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ﴾ فبين أن هذه الأصنام لا فائدة فيها ألبتة، ومع ذلك فإن مردنا إلى الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات الغني عن كل الحاجات الذي لا يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد، فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة تلك الأشياء الباطلة وأن يعرض عن عبادة هذا الإله الذي لا بد وأن يكون مرده إليه ؟
وقوله ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ﴾ قال قتادة يعني المشركين وقال مجاهد السفاكين للدماء والصحيح أنهم أسرفوا في معصية الله بالكلمة والكيفية، أما الكمية فالدوام وأما الكيفية فبالعود والإصرار، ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذه البيانات ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال :﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ ﴾ وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا وهو وقت الموت، وأن يكون في القيامة وقت مشاهدة الأهوال وبالجملة فهو تحذير شديد، ثم قال :﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّه ﴾ وهذا كلام من هدد بأمر يخافه فكأنهم خوفوه بالقتل وهو أيضاً خوفهم بقوله ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ ﴾ ثم عول في ذفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على فضل الله تعالى فقال :﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّه ﴾ وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام، فإن فرعون لما خوفه بالقتل رجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله حيث قال :﴿إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ (غافر : ٢٧) فتح نافع وأبو عمرو الياء من ﴿أَمْرِى﴾ والباقون بالإسكان.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٢٥


الصفحة التالية
Icon