واعلم أن الحي عبارة عن الدارك الفعال والدارك إشارة إلى العلم التام، والفعال إشارة إلى القدرة الكاملة، ولما نبه على هاتين الصفتين من صفات الجلال نبه على الصفة الثالثة وهي : الوحدانية بقوله لا إله إلا هو، ولما وصفه بهذه الصفات أمر العباد بشيئين أحدها : بالدعاء والثاني : بالإخلاص فيه، فقال :﴿فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ ثم قال : دالحمد لله رب العالمين} فيجوز أن يكون المراد قول : فيجوز أن يكون المراد قول :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ ويجوز أن يكون المراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له الحمد لله رب العالمين ولماب يّن صفات الجلال والعظمة قال :﴿قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه ﴾ فأورد ذلك على المشركين بألين قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان، وبيّن أن وجه النهي في ذلك ما جاءه من البينات، وتلك البينات أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة على ما تقدم ذكره، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليف إلا به، وأن جعل الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل.
ولما بيّن أنه أمر بعبادة الله تعالى فقال :﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ وإنما ذكر هذه الأحكام في حق نفسه لأنهم كانوا يعتقدون فيه أنه في غاية العقل وكمال الجوهر، ومن المعلوم بالضرورة أن كل أحد فإنه لا يريد لنفسه ألا الأفضل الأكمل، فإذا ذكر أن مصلحته لا تتم إلا بالإعراض عن غير الله ولإقبال بالكلية على طاعة الله ظهر به أن هذا الطريق أكمل من كل ما سواه، ثم قال :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ﴾.
واعلم أنا قد ذكرنا أن الدلائل على قسمين دلائل الآفاق والأنفس، أما دلائل الآفاق فكثيرة والمذكور منها في هذه لآية أربعة : الليل والنهار والأرض والسماء، وأما دلائل الأنفس فقد ذكرنا أنها على قسمين أحدها : الأحوال الحاضرة حال كمال الصحة وهي أقسام كثيرة، والمذكور ههنا منها ثلاثة أنواع : الصورة وحسن الصورة ورزق الطيبات.
وأما القسم الثاني : وهو كيفية تكون هذا البدن من ابتداء كونه نطفة وجنيناً إلى آخر الشيخوخة والموت فهو المذكور في هذه الآية فقال :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ فقيل المراد آدم، وعندي لا حاجة إليه لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني مخلوق من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما تيولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في تكون ذلك الحيوان كالحال في تكون الإنسان، فالأغذية بأسرها منتهية إلى النباتية والنبت إنما يكون من التراب يصير نطفة ثم علقة بعد كونه علقة مراتب كثيرة إلى أن ينفصل من بطن الأم، فالله تعالى ترك ذكرها ههنا لأجل أنه تعالى ذكرها في سائر الأبيات.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٣٣
واعلم أنه تعالى رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب أولها : كونه طفلاً، وثانيها : أن يبلغ أشده، وثالثها : الشيخوخة وهذا ترتيب صحيح مطابق للعقل، وذلك لأن الإنسان في أول عمره يكون في التزايد والنشوء والنماء وهو المسمى بالطفولية والمرتبة الثانية : أن يبلغ إلى كمال النشوء وإلى أشد السن من غير أن يكون قد حصل فيه نوع من أنواع الضعف والنقص، وهذه المرتبة هي المراد من قوله ﴿ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ﴾ وإذا عرفت هذا التقسيم عرفت أن مراتب العمر بحسب هذا التفسيم لا تزيد على هذه الثلاثة، قال صاحب الكشاف" قوله ﴿لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ متعلق بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا.
ثم قال :﴿وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطاً.
ثم قال :﴿وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى﴾ ومعناه يفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت وقيل يوم القيامة.
ثم قال :﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٣٣
٥٣٣


الصفحة التالية
Icon