المسألة الأولى : وجه النظم في هذه الآية من وجوه الأول : أن العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادات مربوطة بأمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، وذلك لأن الموجودات، إما الخالق وإما الخلق، فأما الخالق فكمال السعادة في المعاملة معه أن يقر بكونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة، ثم يأتي بأفعال دالة على كونه في نهاية العظمة في اعتقادنا وهذا هو المراد من التعظيم لأمر الله، وأما الخلق فكمال السعادة في المعاملة معهم أن يسعى في دفع الشر عنهم وفي إيصال الخير إليهم، وذلك هو المراد من الشفقة على خلق الله، فثبت أن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله، وأفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بكونه واحداً وإذا كان التوحيد أعلى المراتب وأشرفها كان ضده وهو الشرك أخس المراتب وأرذلها، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق هو إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال، لأنه ضد الشفقة على خلق الله، إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفاً بصفات ثلاثة أولها : أن يكون مشركاً وهو ضد التوحيد. وإليه الإشارة بقوله ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ﴾ وثانيها : كونه ممتنعاً من الزكاة وهو ضد الشفقة على خلق الله، وإليه الإشارة بقوله ﴿الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ﴾ وثالثها : كونه منكراً للقيامة مستغرقاً في طلب الدنيا ولذاتها، وإليه الإشارة بقوله ﴿وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ﴾ وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام : الأمس واليوم والغد. أما معرفة أنه كيف كانت أحوال الأمس في الأزل فهو بمعرفة الله تعالى الأزلي الخالق لهذا العالم. وأما معرفة أنه كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر فهو بالإحسان إلى أهل العالم بقدر الطاقة، وأما معرفة الأحوال في اليوم المستقبل فهو الإقرار بالبعث والقيامة، وإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال، فلهذا حكم الله عليه بالويل، فقال :﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ﴾ وهذا ترتيب في غاية الحسن، والله أعلم الوجه الثاني : في تقرير كيفية النظم أن يقال المراد بقوله ﴿لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ﴾ أي لا يزكون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم : لا إله إلا الله، وهو مأخوذ من قوله تعالى :﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا﴾ (الشمس : ٧) الثالث : قال الفرّاء : إن قريشاً كانت تطعم الحاج، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٤
المسألة الثانية : احتج أصحابنا في إثبات أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام بهذه الآية، فقالوا إنه تعالى ألحق الوعيد الشديد بناء على أمرين أحدهما : كونه مشركاً والثاني : أنه لا يؤتي الزكاة، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الأمرين تأثير في حصول ذلك الوعيد، وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيراً عظيماً في زيادة الوعيد، وذلك هو المطلوب.
المسألة الثالثة : احتج بعضهم على أن الامتناع من إيتاء الزكاة يوجب الكفر، فقال إنه تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر، وهو قوله ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ﴾ وذكر أيضاً بعدها ما يوجب الكفر، وهو قوله ﴿وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ﴾ فلو لم يكن عدم إيتاء الزكاة كفراً لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحاً، لأن الكلام إنما يكون فصيحاً إذا كانت المناسبة مرعية بين أجزائه، ثم أكذوا ذلك بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حكم بكفر مانعي الزكاة والجواب : لما ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان وهما حاصلان عند عدم إيتام الزكاة، فلم يلزم حصول الكفر بسبب عدنم إيتاء الزكاة، والله أعلم.
ثم إنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أردفه بوعد المؤمنين، فقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي غير مقطوع، من قولك مننت الحبل، أي قطتعه، ومنه قولهم قد منه السفر، أي قطعه، وقيل لا يمن عليهم، لأنه تعالى لما سماه أجراً، فإذاً الأجر لا يوجب المنّة، وقيل نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٤
٥٥٧


الصفحة التالية
Icon