وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جواباً شافياً فتركناه، قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن الله تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل، إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد لأن قوله ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـاهُمْ﴾ يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل وقوله ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد، وأقول بل هذه الآية من أدل الدلائل، على أنهما إنما يحصلان من الله لا من العبد، وبيانه من وجهين : الأول : أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى، لأنهم أحبوا تحصيله، فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده، فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل، وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب الثاني : أنه تعالى قال :﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلاً، بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلماً لا يرغب فيه، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد وأن يكون مسبوقاً بجهل آخر، فإن كان ذلك الجهل الثاني باختياره أيضاً لزم التسلسل وهو محال، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب، ولما وصف الله كفرهم قال :﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ﴾ و﴿صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ﴾ أي داهية العذاب و﴿الْهُونِ﴾ الهوان، وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه ﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ يريد من شركهم وتكذيبهم صالحاً وعقرهم الناقة، وشرع صاحب "الكشاف" ههنا في سفاهة عظيمة. والأولى أن لا يلتفت إليه أنه وإن كان قد سعى صعياً حسناً فيما يتعلق بالألفاظ، إلا أن المسكين كان بعيداً من المعاني.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٩
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال :﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ يعني وكانوا يتقون الأعمال التي كان يأتي بها قوم عاد وثمود، فإن قيل : كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلّم أن ينذر قومه مثل صا عقة عاد وثمود، مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، وقد صرّح الله تعالى بذلك في قوله ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ (الأنفال : ٣٣) وجاء في الأحاديث الصحيحة أن اللهلله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات قلنا إنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة جوزوا حدوث ما يكون من جنس ذلك، وإن كان أقل درجة مهم وهذا القدر يكفي في التخويف.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٩
٥٦٢
واعلم أنه تعالى لما بيّن كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه بكيفية عقوبتهم في الآخرة، ليحصل منه تمام الاعتبار في الزجر والتحذير، وقرأ نافع ﴿نَحْشُرُ﴾ بالنون ﴿أَعْدَآءِ﴾ بالنصب أضاف الحشر إلى نفسه، والتقدير يحشر الله عزّ وجلّ أعداءه الكفار من الأولين والآخرين وحجته أنه معطوف على قوله ﴿وَنَجَّيْنَا﴾ (فصلت : ١٨) فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ، ويقويه قوله ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ﴾ (مريم : ٨٥) ﴿وَحَشَرْنَـاهُمْ﴾ (الكهف : ٤٧) وأما الباقون فقرؤا على فعل ما لم يسم فاعله لأن قصة ثمود قد تمت وقوله ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ﴾ ابتداء كلام آخر، وأيضاً الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله ﴿احْشُرُوا ﴾ (اللصفات : ٢٢) وهم الملائكة، وأيضاً أن هذه القراءة موافقة لقوله ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (فصلت : ١٩) وأيضاً فتقدير القراءة الأولى أن الله تعالى قال :﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ﴾ فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال ويوم نحشر أعداءنا إلى النار.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أعداء الله يحشرون إلى النار قال :﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي يحبس أولهم على آخرهم، أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم، والمقصود بيان أنهم إذا اجتمعوا سألوا عن أعمالهم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٢
ثم قال :﴿حَتَّى ا إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التقدير حتى إذا جاؤنا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، وعلى هذا التقدير فكلمة ﴿مَّا﴾ صلة، وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله} أثم إذا ما وقع آمنتم به} (يونس : ٥١) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به.


الصفحة التالية
Icon