المسألة الثالثة : ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سبباً وفائدة، وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر ههنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم، لأن الذوق دالخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام، فكان هذا داخلاً فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي، إذا عرفت هذا فنقول نقل عن ابن عباس أنه قال المراد من شهادة الجلود شهادة ا لفروج قال وهذا من باب الكنايات كما قال :﴿وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ (البقرة : ٢٣٥) وأراد النكاح وقال :﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآاـاِطِ﴾ (النساء : ٤٣) والمراد قضاء الحاجة وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه" وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في الإتيان بالزنا، لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف، ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ.
ثم حكى الله تعالى أنهم يقولون لتلك الأعضاء ﴿لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما كنتم في الدنيا ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء ؟
ثم قال تعالى :﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَـارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ﴾ والمعنى إثبات أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة، إلا أن استتارهم ما كان لأجل خوفهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة، ولكن ذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يقدمون عليها على سبيل الخفية والاستتار. عن ابن مسعود قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر عللى ثقفيان وقرشي فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما تقولون ؟
فقال الرجلان إذا سمعنا أصواتنا سمع وإلا لم يسمع. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزل ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٢
ثم قال تعالى :﴿وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ وهذا نص صريح في أن من ظن بالله تعالى أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه فإنه يكون من الهالكين الخاسرين، قال أهل التحقيق الظن قسمان ظن حسن بالله تعالى وظن فاسد، أما الظن الحسن فهو أن يظن به الرحمة والفضل، قال صلى الله عليه وسلّم حكاية عن الله عزّ وجلّ :"أنا عند ظن عبدي بي" وقال صلى الله عليه وسلّم :"لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله"، والظن القبيح فاسد وهو أن يظن بالله أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال، وقال قتادة : الظن نوعان ظن منج وظن مرد، فالمنح قوله ﴿إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ (الحاقة : ٢٠) وقوله ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ﴾ (البقرة : ٤٦)، وأما الظن المردي فهو قوله ﴿وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ﴾ قال صاحب "الكشاف" ﴿تَعْمَلُونَ * وَذَالِكُمْ﴾ رفع بالابتداء و﴿بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ﴾ خبران ويجوز أن يكون ظنكم بدلاً من ذلكم وأرداكم الخبر.
ثم قال :﴿فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ يعني إن أمسكوا عن الاستغالثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أي مقاماً لهم ﴿وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ أي لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها، ونظيره قوله تعالى :﴿أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾ (إبراهيم : ٢١) وقرىء وإن يستعتبوا فما هم من الممعتبين أي أن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون أي لا سبيل لهم إلى ذلك.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٢
٥٦٥
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر فقال :﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الصحاح" : يقال قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما يقال بيعان، وقيض الله فلاناً أي جاءه به وأتى به له، ومنه قوله تعالى :﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ﴾.


الصفحة التالية
Icon