واعلم أن القوم علموا أن القرآن كلام كالم في المعنى، وفي اللفظ وأن كل من سمعه وقف على جزالة ألفاظه، وأْاط عقله بمعانيه، وقضى عقله بأنه كلام حق واجد القبول، فدبروا تدببيراً في منع الناس عن استماعه، فقال بعضهم لبعض ﴿لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ﴾ إذا قرىء وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة والكلمات الباطلة، حتى تخلطوا على القارىء وتشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته، كا نت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضاً، والمراد افعلوا عند تلاوة القرآن ما يكون لغواً وباطلاً، لتخرجوا قراءة القرآن عن أن تصير مفهومة للناس، فبهذا الطريق تغلبون محمداً صلى الله عليه وسلّم، وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلون بالغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمداً بفضله، ولما ذكر الله تعالى ذلك هددهم بالعذاب الشديد فقال :﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا﴾ لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب الشديد، فإذا كان القليل منه عذاباً شديداً فكيف يكون حال الكثير منه، ثم قال :﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ واختلفوا فيه فقال الأكثرون المراد جزاء سوء أعمالهم، وقال الحسن بل المراد أنه لا يجازيهم على محاسن أعمالهم، لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت تلك الأعمال الحسنة عنهم، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة الباطلة، فلا جرم لم يتحصلوا إلا على جزاء السيئات.
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ ﴾ والمعنى أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار.
ثم قال تعالى :﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ﴾ أي لهم في جملة النار دار السيئات معينة وهي دار العذاب المخلد لهم ﴿جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُا لَهُمْ﴾ أي جزاء بما كانوا يلغون في القراءة، وإنما مساه جحوداً لأنهم لما علموا أن القررن بالغ إلى حد الإهجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة/ وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً إلا أنهم جحدوا للحسد.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٥
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السوء بين أن الكفار عند الوقوع في العذاب الشديد يقولون ﴿رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ﴾ والسبب في ذكر هذين القسمين أن الشيطان على ضربين جني وإنسي، قال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ﴾ (الانعام : ١١٢) وقال :﴿الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ (الناس : ٥) وقيل هما إبليس وقابيل لأن الكفر سنة إبليس، والقتل بغير حق سنة قابيل.
وقرىء ﴿أَرِنَا﴾ بسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخذ فخذ، وقيل معناه أعطنا الذين أضلانا وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر، فالمعنى بصرنيه وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء معناه أعطني ثوبك.
ثم قال تعالى :﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ قال مقاتل يكونان أسفل منا في النار ﴿لِيَكُونَا مِنَ الاسْفَلِينَ﴾ قال الزجاج : ليكونا في الدرك الأسفل من النار، وكان بعض تلامذتي ممن يميل إلى الحكمة يقول المراد باللذين يضلان الشهوة والغضب، وإليهما الإشارة في قصة الملائكة بقوله ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ (البقرة : ٣٠) ثم قال والمراد بقوله ﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ يعني يا ربنا أعنا حتى نجعل الشهوة والغضب تحت أقدام جوهر النفس القدسية، والمراد بكونهما تحت أقدمه كونهما مسخرين للنفس القدسية مطيعين لها، وأن لا يكونا مسؤولين عليها قاهرين لها.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٥
٥٦٧


الصفحة التالية
Icon