جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٨
المسألة الثالثة : قوله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ﴾ يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سوها، إذا عرفت هذا فنقول : كل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب، إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمتقضى هذه الآية، وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب، ثم ينتج أن الدعوة إلى الله واجبة، ثم نقول الأذان دعوة إلى الله والدعوة إليه واجبة فينتج لأذان واجب، واعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب، وزعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية، والدليل القاطع عليه أن لدعوة المرادة بهذه الآية يجب أن تكون أحسن الأقوال، وثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال، لأن الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان، ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو لأذان.
المسألة الرابعة : اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل أنا المسلم أو الأولى أن يقول أنا مسلم إن شاء الله، فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فإن التقدير ومن أحسن قولاً ممن قال إني من المسلمين، فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال، ولو كان قولنا إن شاء الله معتبراً في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية.
المسألة الخامسة : الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة أولها : الدعوة إلى الله وثانيها : العمل الصالح وثالثها : أن يكون من المسلمين، أما الدعوة إلى الله فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية.
وأما قوله ﴿وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ فاعلم أن العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة، أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات.
وأما قوله ﴿وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان/ فيكون هذا الرجل موصوفاً بخصال أربعة أحدها : الإقرار باللسان، والثاني : الأعمال الصالحة بالجوارح والثالث : الاعتقاد الحق بالقلب والرابع : الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله، ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم، وكمال الدرجة في هذه المراتبالأربعة ليس إلا لمحمد صلى الله عليه وسلّم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٨
ثم قال تعالى :﴿وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ﴾ وعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدىء من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا ﴿قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ﴾ (فصلت : ٥) فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة وعدم التأثر بدلائل محمد صلى الله عليه وسلّم، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة وأردافها بالوعد والوعيد، ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم ﴿لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ (فصلت : ٢٦) وأجاب عنها أيضاً بالوجوه الكثيرة، ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمداً صلى الله عليه وسلّم في أن لا يترك الدعوة إلى الله فابتدأ أولاً بأن قال :﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ﴾ فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات، فصار الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعاً على أحسن وجوه الترتيب، ثم كأن سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به، فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال :﴿الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ﴾ والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى الدين الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام، وترك الالتفات إليهم، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم ﴿قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ﴾ وما ذكروه في قولهم ﴿لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجباً للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضد من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة.
ثم قال :﴿ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٨


الصفحة التالية
Icon