واعلم أنه تعالى لما ذكر الآيات الأربع الفلكية وهي الليل والنهار والشمس والقمر، أتبعها بذكر آية أرضية فقال :﴿وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً﴾ والخشوع التذلل والتصاغر، واستعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر والنبات ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾ أي تحركت بالنبات، وربت : انتفخت لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت، ثم تصدعت عن النبات، ثم قال :﴿إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا﴾ يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها، وقد ذكرنا تقرير هذا الدليل مراراً لا حصر لها، ثم قال :﴿إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهذا هو الدليل الأصلي وتقريره إن عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته، وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الاْجزاء بعد اجتماعها أيضاً أمر ممكن لذاته، والله تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء/ وهذا يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه ألبتة، والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٧٠
٥٧٥
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب وأشرف المراتب، ثم بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى، إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات، ويحاول إلقاء الشبهات فيها، فقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَـاتِنَا﴾ يقال ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق، فالملحد هو المنحرف، ثم بحكم العرف اختص بالمنحرف عن الحق إلى الباطل، وقوله ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ﴾ تهديد كما إذا قال الملك المهيب : إن الذين ينازعونن في ملكي أعرفهم، فإنه يكون ذلك تهديداً، ثم قال :﴿أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا يَوْمَ الْقِيَـامَةِا اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وهذا استفهام بمعنى التقرير، والغرض التنبيه على أن الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار، والذين يؤمنون بآياتنا يأتون آمنين يوم القيامة. ثم قال :﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وهذا أيضاً تهديد ثالث، ونظيره ما يقوله الملك المهيب عند الغضب الشديد إذا أخذ يعاتب بعض عبيده ثم يقول لهم اعملوا ما شئتم فإه هذا مما يدل على الوعيد الشديد.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٧٥
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ وهذا أيضاً تهديد، وفي جوابه وجهان : أحدهما : أنه محذوف كسائر الأجوبة المحذوفة في القرآن على تقدير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يجازون بكفرهم أو ما أشبه والثاني : أن جوابه قوله ﴿أُوالَـا ئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ﴾ والأول أصوب، ولما بالغ في تهديد الذين يلحدون في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن، فقال :﴿وَإِنَّه لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ﴾ والعزيز له معنيان أحدهما : الغالب القاهر والثاني : الذي لا يوجد نظيره، أما كون القرآن عزيزاً بمعنى كونه غالباً، فالأمر كذلك لأنه بقورة حجته غلب على كل ما سواه، وأما كونه غزيزاً بمعنى عديم النظير، فالأمر كذلك لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته، ثم قال :﴿لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه ﴾ وفيه وجوه : الأول : لا تكذبه الكتب المتقدملاة كالتوراة والإنجيل والزبور، ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه الثاني : ما حكم القرآن بكونه حقاً لا يصير باطلاً، وما حكم بكونه باطلاً لا يصير حقاً الثالث : معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. والدليل عليه قوله ﴿وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ﴾ (الحجر : ٩) فعل هذا الباطل هو الزيادة والنقصان الرابع : يحتمل أن يكون المراد أنه لا يوجد في المستقبل كتاب ينكن جعله معارضاً وله ولم يوجد فيما تقدم كتاب يصلح جعله معارضاً له الخامس : قال صاحب "الكشاف" هذا تمثيل، والمقصود أن الباطل لا يتطرق إليه، ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حتى يتصل إليه.
واعلم أن لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه لأن النسخ إبطال فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وإنه على خلاف هذه الآية.
ثم قال تعالى :﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ أي حكيم في جميع أحواله وأفعاله، حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه، ولهذا السبب جعل ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ (الفاتحة : ٢) فاتحة كلامه، وأخبر أن خاتمة كلام أهل الجنة، وهو قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ (الزمر : ٧٥).


الصفحة التالية
Icon