واعلم أن هذا متعلق بقولهم ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ﴾ إلى آخر الآية، كأنه تعالى يقول : إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم، فلا يمكنكم أن تقولوا إن قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا بهذه اللغة، فبقي أن يقال إن كل من آتاه الله طبعاً مائلاً إلى الحق، وقلباً مائلاً إلى الصدق، وهمة تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين، فإن هذا القرآن يكون في حقه هدىً شفاء. أما كونه هدىً فلأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات، وأما كونه شفاء فإنه إذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى، فذلمك الهدى شفاء له من مرض الكفر والجهل، وأما من كان غارقاً في بحر الخذلان، وتائهاً في مفاوز الحرمان، ومشغوفاً بمتابعة الشيطان، كان هذا القرآن في آذانه وقراً، كما قال :﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى ﴾ (فصلت : ٥) وكان القرآن عليهم عمى كما قال :﴿وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ (فصلت : ٥)، ﴿أُوالَـا ئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ﴾ بسبب ذلك الحجاب الذي حال بين الانتفاع ببيان القرآن، وكل من أنصف ولم يتعسف علم أنا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً نحو غرض واحد، فيكون هذا التفسير أولى مما ذكروه، وقرأ الجمهور ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ على المصدر، وقرأ ابن عباس عم على النعت، قال أبو عبيد والأول هو الوجه، كقوله ﴿هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾ وكذلك ﴿عَمًى ﴾ وهو مصدر مثلها، ولو كان المذكور أنه هاد وشاف لكان الكسر في ﴿عَمًى ﴾ أجود فيكون نعتاً مثلهما، وقوله تعالى :﴿أُوالَـا ئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ﴾ قال ابن عباس : يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء، وقيل من دعي من مكان بعيد لم يسمع، وإن سمع لم يفهم، فكذا حال هؤلاء.
ثم قال تعالى :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيه ﴾ وأقول أيضاً إن هذا متعلق بما قبله، كأنه قيل إنا لما آتينا موسى الكتاب اختلفوا فيه، فقبله بعضهم ورده الآخرون، فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك، ورده الآخرون، وهم الذين يقولون ﴿قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ﴾.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٧٥
ثم قال تعالى :﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ يعني في تأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة، كما قال :﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾ (القمر : ٤٦) ﴿لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ ﴾ يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع بمن كذب وإنهم لفي شك من صدقك وكتابك مريب/ فلا ينبغي أن تستعظم استيحاشك من قولهم ﴿قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ﴾.
ثم قال :﴿مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ يعني خفف على نفسك إعراضهم، فإنهم إن آمنا فنفع إيمانهم يعود عليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، والله سبحانه يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٧٥
٥٧٩
واعلم أنه تعالى لما هدد الكفار في هذه الآية المتقدمة بقوله ﴿مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ (فصلت : ٤٦) ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه في يوم القيامة، وكأن سائلاً قال ومتى يكون ذلك اليوم ؟
فقال تعالى إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال :﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾ وهذه الكلمة تفيد الحصر أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله، وكما أن هذا العلم ليس إلا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين أحدهما : قوله ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا﴾ والثاني : قوله ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه ﴾ قال أبو عبيدة أكمامه أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمة، قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم من ثمرات بالألف على الجمع والباقون من ثمرة بغير ألف على الواحد.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٧٩


الصفحة التالية
Icon