واعلم أن قوله ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ ﴾ يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم، ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض، وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له ألبتة أفضل ممن له ذنب وأيضاً فقوله ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ ﴾ يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض/ وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم.
ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال :﴿أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه الأول : أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة، ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى الثاني : أن الملائكة قالوا في أول الأمر ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ (البقرة : ٣٠) ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض، وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجوداً في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى الثالث : أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستغفرون لمن في الأرض ولم يحك عنهم أنهم يطلبون الرحمة لمن في الأرض فقال :﴿أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ يعني أنه يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة الكاملة التامة.
ثم قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ﴾ أي جعلوا له شركاء وأنداداً ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوته منها شيء وهو محاسبهم عليها لا رقيب عليهم إلا هو وحده وما أنت يا محمد بمفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان، إنما أنت منذر فحسب.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٩٠
٥٩٨
واعلم أن كلمة (ذلك) للإشارة إلى شيء سبق ذكره فقوله ﴿وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا﴾ يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء ههنا قد سبق ذكره، وليس ههنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ (الشورى : ٦) يعني كما أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم، فكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتكون نذيراً لهم وقوله تعالى :﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى ﴾ أي لتنذر أهل أم القرى لأن البلد لا تعقل وهو كقوله ﴿وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ﴾ (يوسف : ٨٢) وأم القرى أصل القرى وهيب مكة وسميت بهذا الاسم إجلالاً للها لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعرب تسمي أصل كل شيء أمة حتى يقال هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان، ومن حولها من أهل البدو والحضر وأهل المدر، والإنذار التخويف، فإن قيل فظاهر اللفظ يقتضي أن الله تعالى إنما أوحي إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة وهذا يقتضي أن يكون رسولاً إليهم فقط وأن لا يكون رسولاً إلى كل العالمين الجواب : أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما سواه، فهذه الآية تدل على كونه رسولاً إلى هؤلاء خاصة وقوله ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ﴾ (سبأ : ٢٨) يدل على كونه رسولاً إلى كل العالمين، أيضاً لما ثبت كونه رسولاً إلى أهل مكة وجب كونه صادقاً، ثم ءنه نقل إلينا بالتواتر كان يدعى أنه رسول إلى كل العالمين، والصادق إذا أخبر عن شيء وجب تصديقه فيه، فثبت أنه رسول إلى كل العالمين.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٩٨