ثم قال تعالى :﴿ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبِّى﴾ أي ذلكم الحاكم بينكم هو ربي ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في دفع كيد الأعداء وفي طلب كل خير ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أي وإليه أرجع في كل المهمات، وقوله ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ يفيد الحصر، أي لا أتوكل إلا عليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً.
ثم قال :﴿فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ قرىء بالرفع والجر، فالرفع على أنه خبر ذلكم، أو خبر مبتدأ محذوف، والجر على تقدير أن يكون الكلام هكذا وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله فاطر السموات والأرض وقوله ﴿ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبِّى﴾ اعتراض وقع بين الصفة والموصوف، ﴿جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ من جنسكم من الناس ﴿أَزْوَاجًا وَمِنَ الانْعَـامِ أَزْوَاجًا ﴾ أي خلق من الأنعام أزواجاً، ومعناه وخلق أيضاً للأنعام من أنفسها أزواجاً ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ أي يكثركم، يقال : ذرأ الله الخلق، أي كثرهم، وقوله ﴿فِيه ﴾ أي في هذا التدبير، وهو اللتزويج وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، والضمير في ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ يرجع إلى المخاطبين، إلى أنه غلب فيه جانب الناس من وجهين الأول : أنه غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء الثاني : أنه غلب فيه جانب المخاطبين على الغائبين، فإن قيل ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير، ولم لم يقل يذرؤكم به ؟
قلنا جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير، ألا ترى أنه يقال للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى :﴿وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ﴾ (البقرة : ١٧٩).
ثم قال تعالى :﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ وهذه الآية فيها مسائل :
المسألة الأولى : احتج علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء وحاصلاً في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى :﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ ﴾ ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال إما أن يكون المراد ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ ﴾ في ماهيات الذات، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء، والثاني باطل، لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين، كما أن الله تعالى يوسف بذلك، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات، فيكون المعنى أن شيئاً من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية، فول كان الله تعالى جسماً، لكان كونه جسماً ذاتاً لا صفة، فإذا كان ساشر الأجسام مساوية له في الجسمية، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة، فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتاً، والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسماً.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٩٨
واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه "بالتوحيد"، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأن كان رجلاً مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال :"نحن نثبت لله وجهاً ونقول : إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك والفناء، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً/ لكان قد شبّه وحوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب. ثم قال : ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له : وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه".


الصفحة التالية
Icon