ثم قال تعالى :﴿اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ وفيه وجهان الأول : أنه تعالى لما أرشضد أمة محمد صلى الله عليه وسلّم إلى التمسك بالدين المتفق عليه بيّن أنه تعالى إنما أرشدهم إلى هذا الخير، لأنه اجتباهم واصطفاهم وخصهم بمزيد الرحمة والكرامة الثاني : أنه إنما كبّر عليهم هذا الدعاء من الرسل لما فيه من الانقياد لهم تكبراً وأنفة فبيّن تعالى أنه يخص من يشاء بالرسالة ويلزم الانقياد لهم/ ولا يعتبر الحسب والنسب والغنى، بل الكل سواء في أنه يلزمهم اتباع الرسل الذين اجتباهم الله تعالى، واشتقاق لفظ الاجتباء يدل على الضم والجمع، فمنه جبى الخراج واجتباه وجبى الماء في الحوض فقوله ﴿اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ﴾ أي يضمه إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة، وقوله ﴿مَن يَشَآءُ﴾ كقوله تعالى :﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ ﴾ (العنكبوت : ٢١).
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠١
ثم قال :﴿وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ وهو كما روي في الخبر "من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" أي من أقبل إليّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتي وإرشادي بأن أشرح له صدره وأسهل أمره.
واعلم أنه تعالى لما بيّن أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه، كان لقائل أن يقول : فلماذا نجدهم متفرقين ؟
فأجاب الله تعالى عنهم بقوله ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ ﴾ يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية، على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه طلباً للذكر والرياسة، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف، ثم أخب تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل، إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب، لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى، أي وقتاً معلوماً، إما لمحض المشيئة كما هو قولنا، أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة، وهو معنى قوله ﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ ﴾ والأجل المسمى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة من هم ؟
فقال الأكثرون هم اليهود والنصارى، والدليل قوله تعالى في آل عمران ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ ﴾ (آل عمران : ١٩) وقال في سورة لم يكن ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ (البينة : ٤) ولأن قوله ﴿إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ لائق بأهل الكتاب، وقال آخرون : إنهم هم العرب، وهذاباطل للوجوه المذكورة، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَـابَ مِنا بَعْدِهِمْ﴾ لا يليق بالعرب، لأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم، هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ﴿لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ﴾ من كتابهم ﴿مُرِيبٍ﴾ لا يؤمنون به حق الإيمان.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠١
ثم قال تعالى :﴿فَلِذَالِكَ فَادْعُا وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ ﴾ يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل مات حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين، فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليهاوعلى الدعوة إليها، كما أمرك الله، ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة ﴿وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍ ﴾ أي بأي كتاب صح أن الله أنزله، يعني لإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، ونظيره قوله ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ إلى قوله ﴿ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ﴾ (النساء : ١٥١) ثم قال :﴿وَأُمِرْتُ لاعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي، قل القفال : معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه، لكني أسوي بينكم وبين نفسي، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله.


الصفحة التالية
Icon