ثم قال :﴿اللَّهُ لَطِيفُا بِعِبَادِه ﴾ أي كثير الإحسان بهم، وإنما حسن ذكر هذا الكلام ههنا لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، فكان ذلك من لطف الله بعباده، وأيضاً المتفرقون استوجبوا العذاب الشديد، ثم إنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف ا لله تعالى، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ودفع أعظم المضار عنهم، لا جرم حسن ذكره ههنا، ثم قال :﴿يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ﴾ يعني أن أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد، وذلك هو الإحسان بالحياة والعقل والفهم، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق، ودفع أكثر الآفات والبليات عنهم، فأما مراتب العطية والبهجة فمتفاوتة مختلفة.
ثم قال : دهو القوي} أي القادر على كل ما يشاء أي القادر على كل ما يشاء ﴿الْعَزِيزُ﴾ الذي لا يغالب ولا يدافع.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠١
٦٠٤
اعلم أنه تعالى لما بيّن كون لطيفاً بعبداه كثير الإحسان إليهم بيّن أنه لا بد لهم من أن يسعوا في طلب الخيرات وفي الاحتراز عن القبائح فقال :﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه ﴾ قال صاحب "الكشاف" إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به القائدة حرثاً على سبيل المجاز وفي الآية مسائل :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠٤
المسألة الأولى : أنه تعالى أظهر الفرق في هذه الآية بين من أراد الآخرة وبين من أراد الدنيا من وجوه الأول : أنه قدم مريد حرث الآخرة في الذكر على مريد حرث الدنيا، وذلك يدل على التفضيل، لأنه وصفه بكونه آخرة ثم قدمه في الذكر تنبيهاً على قوله "نحن لآخرون السابقون" الثاني : أنه قال في مريد حرث الآخرة ﴿نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه ﴾ وقال في مريد حرث الدينا ﴿نُؤْتِه مِنْهَا﴾ وكلمة من للتبعيض، فالمعنى أنه يعطيه بعض ما يطلبه ولا يؤتين كله، وقال في سورة بني إسرائيل ﴿عَجَّلْنَا لَه فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ﴾ (الإسرار : ١٨) وأقوال البرهان العقلي مساعد على البابين، وذلك لأن كل من عمل للآخرة وواظب على ذلك العمل، فكثرة الأعمال سبب لحصول الملكات، فكل من كانت مواظبته على تلك الأعمال أكثر كان ميل قلبه إلى طلب الآخرة أكثر، وكلما كان الأمر كذلك كان الابتهاج أعظم والسعادات أكثر، وذلك هو المراد بقوله ﴿نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه ﴾ وأما طالب الدنيا فكلما كانت مواظبته على أعمال ذلك الطلب أكثر كانت رغبته في الفوز بالدنيا أكثر وميله إليها أشد، وإذا كان الميل أبداً في التزايد، وكان حصول المطلوب باقياً على حالة واحدة كان الحرمان لازماً لامحالة الثالث : أنه تعالى قال في طالب حرث الآخرة ﴿نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه ﴾ ذ ولم يذكر أنه تعالى يعطيه الدنيا أم لا، بل بقي الكلام ساكتاً عنه نفياً وإثباتاً، وأما طالب حرث الدنيا فإنه تعالى بيّن أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة على التنصيص، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول الآخرة أصل والدنيا تبع، فواجد الأصل يكون واجداً للتبع بقدر الحاجة/ إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيهاً على أن الدنيا أخس من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة والرابع : أنه تعالى بيّن أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه، وبيّنأن طالب الدنيا يعطي بعض مطلوبه من الدنيا، وأما افي الآخرة فإنه لا يحصل له نصيب ألبتة، فبيّن بالكلام الأول أن طالب الآخرة يكون حاله أبداً في الترقي والتزايد وبيّن بالكلام الثاني أن طالب الدني يكون حاله في المقام الأول في النقصان وفي المقام الثاني في البطلان التامالخامس : أن الآخرة نسيئة والدنيا نقد والنسيئة مرجوجة بالنسبة إلى النقد، لأنالناس يقولون النقد خير من النسيئة فبيّن تعالى أن هذه القضية انعكست بالنسبة إلى أحوال الآخرة والدنيا، فالآخرة وإن كانت نقداً إلا أنها متوجهة للزيادة والدوام فكانت أفضل وأكمل، والدنيا وإن كانت نقداً إلا أنها متوجهة إلى النقصان ثم إلى البطلان فكانت أخس وأرذل، فهذا يدل على أن حال الآخرة لا يناسب حال الدنيا ألبتة، وأنه ليس في الدنيا من أحوال الآخرة إلا مجرد الاسم كما هو مروي عن ابن عباس السادس : الآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة بل لا بد في البابين من الحرث، والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق في البذر ثم التسقية والتنمية والحصد ثم التنقية، فلما سمى الله كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق، ثم بيّن تعالى أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وإن مصير الدنيا إلى النقصان ثم الفناء، فكأنه قيل إذا كان لا بد في القسمين جميعاً من تحمل متاعب الحراثة والتسمية والتنمية والحصد والتنقية، فلأن تصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد والبقاء أولى من صرفها إلى ما يكون في النقصان والانقضاء والفناء.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠٤


الصفحة التالية
Icon