المسألة الثانية : المراد بهذه الصمائب الأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام القحط والغرق والصواعق وأشباهها، واختلفوا في نحو الآلام أنها هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا ؟
منهم من أنكر ذلك لوجوه الأولى : قوله تعالى :﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ ﴾ (غافر : ١٧) بيّن تعالى أن الجزاء إنما يحصل في يوم القيامة، وقال تعالى في سورة الفاتحة ﴿مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ (الفاتحة : ٤) أي يوم الجزاء، وأطبقوا على أن المراد منه يوم القيامة والثاني : أن مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق، وما يكون كذلك امتنع جعله من باب العقوبة على الذنوب، بل الاستقراء يدل على أن حصول هذه المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم :"خص البلاء بالأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل" الثالث : أن الدنيا دار التكليف، فلو جعل الجزاء فيها لكانت الدينا دار التكليف ودار الجزاء معاً، وهو محال، وأما القائلون بأن هذه المصائب قد تكون أجزية على الذنوب المتقدنمة، فقد تمسكوا أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن قال :"لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا غيره إلا بذنب أو لفظ" هذا معناه وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ﴾ (الشورى : ٣٤) وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك كان بسبب كسبهم، وأجاب الأولون عن التمسك بهذه الآية، فقالوا إن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء، ويحمل قوله ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم، وكذا الجواب عن بقية الدلائل، والله أعلم.
المسألة الثالثة : احتج أهل التناسخ بهذه الآية، وكذلك الذين يقولون إن الأطفال البهائم لا تتألم، فقالوا دلّت الآية على أن حصول المصائب لا يكون إلا لسابقة الجرم، ثم إن أهل التناسخ قالوا : لكن هذه المصائب حاصلة للأطفال والبهائم، فوجب أن يكون قد حصل لها ذنوب في الزمان السابق، وأما القائلون بأن الأطفال والبهائم ليس لها ألم قالوا قد ثبت أن هذه الأطفال والبهائم ما كانت موجودة فيبدن آخر لفساد القول بالتناسخ فوجب القطع بأنها لا تتألم إذ الألم مصيبة والجواب : أن قوله تعالى :﴿وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ خطاب مع من يفهم ويعقل، فلا يدخل فيه البهائم والأطفال، ولم يقل تعالى : إن جميع ما يصيب الحيوان من المكاره فإنه بسبب ذنب سابق، والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠٨
المسألة الرابعة : قوله ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ يقتضي إضافة الكسب إلى اليد، قال والكسب لا يكون باليد، بل بالقدرة القائمة باليد، وإذا كان المراد من لفظ اليد ههنا القدرة، وكان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن الأعضاء والأجزاء، والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ﴾ ومعناه أنه تعالى قد يترك الكثير من هذه التشديدات بفضله ورحمته، وعن الحسن قال : دخلنا على عمران بن حصين في الوجع الشديد، فقيل له : إنا لنغتم لك من بعض ما نرى، فقال لا تفعلوا فوالله إن أحبه إلى الله أحبه إلي، وقرأ ﴿وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ فهذا بما كسبت يداي/ وسيأتيني عفو ربي، وقد روى أبو سخلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية وقال :"ما عفى الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة، وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة" رواه الواحدي في "البسيط"، وقال إذا كان كذلك فهذه أرجى آية في كتاب الله لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين : صنف كفره عنهم بالمصائب في الدنيا، وصنف عفا عنه في الدنيا، وهو كريم لا يرجع في عفوه، وهذه سنّة الله مع المؤمنين، وأما الكافر فلأنه لا يعجل عليه عقوبة ذنبه حتى يوافي ربه يوم القيامة.
ثم قال تعالى :﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الارْضِ ﴾ يقول ما أنتم معشر المشركين بمعجزين في الأرض، أي لا تعجزونني حيثما كنتم، فلا تسبقونني بسبب هربكم في الأرض ﴿وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ والمراد بهم من يعبد الأصنام، بين أنه لا فائدة فيها ألبتة، والنصير هو الله تعالى، فلا جرم هو الذي تحسن عبادته.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠٨
٦١١
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل والوقف، فإثبات الياء في الأصل وحذفها للتخفيف.
المسألة الثانية : الجواري، يعني السفن الجواري، فحذف الموصوف لعدم الالتباس.


الصفحة التالية
Icon