المسألة الأولى : لقائل أن يقول جزاء السيئة مشروع مأذون فيه، فكيف سمي بالسيئة ؟
أجاب صاحب "الكشاف" : عنه كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به، قال تعالى :﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَـاذِه مِنْ عِندِكَ ﴾ (النساء : ٧٨) يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا، وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر على سبيل المجاز أطلق اسم أحدهما على الآخر، والحق ما ذكره صاحب "الكشاف".
والمسألة الثانية : هذه الآية أصل كبير في علم الفقه فإن مقتضاها أن تقابل كل جناية بمثلها وذلك لأن الإهدار يوجب فتح باب الشر والعدوان، لأن في طبع كل أحد الظلم والبغي والعدوان، فإذا لم يزجر عنه أقدم عليه ولم يتركه، وأما الزيادة على قدر الذنب فهو ظلم والشرع منزّه عنه فلم يبق إلا أن يقابل بالمثل، ثم تأكد هذا النص بنصوص أُخر، كقوله تعالى :﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ﴾ (النحل : ١٢٦) وقوله تعالى :﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا ﴾ (غافر : ٤٠) وقوله عزّ وجلّ :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ (البقرة : ١٧٨) والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة وقوله تعالى :﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ (المائدة : ٤٥) وقوله تعالى :﴿وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ﴾ (البقرة : ١٧٩) فهذه النصوص بأسرها تقتضي مقابلة الشيء بمثله. ثم ههنا دقيقة : وهي أنه إذا لم يمكن استيفاء الحق إلا باستيفاء الزيادة فههنا وقع التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه، فأيهما أولى ؟
فههنا محل اجتهاد المجتهدين، ويختلف ذلك باختلاف الصور، وتفرع على هذا الأصل بعض المسائل تنبيهاً على الباقي.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦١٦
المثال الأول : احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد، بأن قال المماثلة شرط لجريان اللقصاص وهي مفقودة في هاتين المسألتين، فوجب أن لا يجري القصاص بينهما، أما بيان أن المماثلة شرط لجريان القصاص فهي النصوص المذكورة/ وكيفية الاستدلال بها أن نقول إما أن نحمل المماثلة المذكورة في هذه النصوص على المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه الدليل أو نحملها على المماثلة في أمر معين، والثاني مرجوح لأن ذلك الأمر المعين غير مذكور الآية، فلو حملنا الآية عليها لزم الإجمال، ولو حملنا النص على القسم الأول لزم تحمل التخصيص، ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص، فثبت أن الآية تقتضي رعاية المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه دليل العقل ودليل نقلي منفصل، وإذا ثبت هذا فنقول رعاية المماثلة في قتل المسلم بالذمي، وقي قتل الحر بالعبد لا تمكن لأن الإسلام اعتبره الشرع في إيجاب القتل، لتحصيله عند عدمه كما في حق الكافر الأصلي، ولإبقائه عند وجوده كما في حق المرتد وأيضاً الحرية صفة اعتبرها الشرع في حق القضاء والإمامة والشهادة، فثبت أن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة ههنا فوجب المنع من القصاص.
المثال الثاني : احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحد، فقال لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله لهذه النصوص وكل من قال يشرع القطع إما كله أو بعضه في حق كلهم أو بعضهم قال بإيجابه على الكل، بقي أن يقال فيلزم منه استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع منه إلا أنا نقول لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجني عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى.
المثال الثالث : شريك الأب شرع في حقه القصاص، والدليل عليه أنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى :﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ (المائدة : ٤٥) وإذا ثبت هذا ثبت تمام القصاص لأنه لا قائل بالفرق.
المثال الرابع : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله.
المثال الخامس : شهود القصا ص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه، فوجب أن يصير دمهم مهدراً لقوله تعالى :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦١٦
المثال السادس : قال الشافعي رضي الله عنه المكره يجب عليه القود لأنه صدر عنه القتل ظلماً فوجب أن يجب عليه مثله، أما أنه صدر عنه القتل فالحس يدل عليه وأما أنه قتل ظلماً فلأن المسلمين أجمعوا على أنه مكلف من قبل الله تعالى بأن لا يقتل وأجمعوا على أنه يستحق به الإثم العظيم والعقاب الشديد، وإذا ثبت هذا فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾.


الصفحة التالية
Icon