وإنما نأخذ ما أعطينا وقوله ﴿ظَلَّ﴾ أي صار، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة، قال صاحب "الكشاف" : قرىء مسود مسواد، والتقدير وهو مسود، فتقع هذه الجملة موقع الخبر والثاني : قوله ﴿أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٢٩
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ينشؤ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على ما لم يسم فاعله، أي يربى، والباقون ينشأ، بضم الياء وسكون النون وفتح الشين، قال صاحب "الكشاف" : وقرىء يناشأ، قال ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء، المغالاة بمعنى الإغلاء.
المسألة الثانية : المراد من قوله ﴿أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ﴾ التنبيه على نقصانها، وهو أن الذي يربى في الحلية يكون ناقص الذات، لأنه لولا نقصان في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية، ثم بيّن نقصان حالها بطريق آخر، وهو قوله ﴿وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ يعني أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين، وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها، ويقال قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بما كان حجة عليها، فهذه الوجوه دالة على كمال نقصها، فكيف يجوز إضافتهن بالولدية إليه.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن التحلي مباح للنساء، وأنه حرام للرجال، لأنه تعالى جعل ذلك من المعايب وموجبات النقصان، وإقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذل وذلك حرام، لقوله عليه السلام :"ليس للمؤمن أن يذل نفسه" وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله، والتزين بزينة التقوى، قال الشافعي :
فتدرعت يوماً للقنوع حصينة
أصون بها عرضي أوجعلها ذخراً
فولم أحذر الدهر الخئون وإنما
قصاراه أن يرمي بي الموت والفقرا
ففأعددت للموت الإله وعفوه
وأعددت للفقر التجلد والصبرا
ثم قال تعالى :﴿وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد بقوله :﴿جَعَلُوا ﴾، أي حكموا به، ثم قال :﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ﴾ وهذا استفهام على سبيل الإنكار، يعني أنهم لم يشهدوا خلقهم، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بالدلائل العقلية، وأما الدلائل النقلية فكلها مفرعة على إثبات النبوّة، وهؤلاء الكفار منكرون للنبوة، فلا سبيل لهم إلى إثبات هذا المطلوب بالدلائل النقلية/ فثبت أنهم ذكروا هذه الدعوى من غير أن عرفوه لا بضرورة ولا بدليل، ثم إنه تعالى هددهم فقال :﴿سَتُكْتَبُ شَهَـادَتُهُمْ وَيُسْـاَلُونَ﴾ وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر، وأن التقليد يوجب الذم العظيم والعقاب الشديد. قال أهل التحقيق : هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه أولها : إثبات الولد لله تعالى وثانيها : أن ذلك الولد بنت وثالثها : الحكم على الملائكة بالأنوثة.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٢٩
المسألة الثانية : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر :(عند الرحمن) بالنون، وهو اختيار أبي حاتم واحتج عليه بوجوه الأول : أنه يوافق قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ﴾ (الأعراف : ٢٠٦) وقوله ﴿وَمَنْا عِندَهُ﴾ (الأنبياء : ١٩) والثاني : أن كل الخلق عباده فلا مدح لهم فيه والثالث : أن التقدير أن الملائكة يكونون عند الرحمن، لا عند هؤلاء الكفار، فكيف عرفوا كونهم إناثاً ؟
وأما الباقون فقرأوا عباد جمع عبد وقيل جمع عابد، كقائم وقيام، وصائم وصيام، ونائم ونيام، وهي قراءة ابن عباس، واختيار أبي عبيد، قال لأنه تعالى رد عليهم قولهم : إنهم بنات الله، وأخبر أنهم عبيد، ويؤيد هذه القراءة قوله ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ (الأنبياء : ٢٦).
المسألة الثالثة : قرأ نافع وحده : بهمزة ومدة بعدها خفيفة لينة وضمة، أي (أ) أحضروا خلقهم، وعن نافع غير ممدود على ما لم يسم فاعله، والباقون : أشهدوا، بفتح الألف، من (أ) شهدوا، أي أحضروا.
المسألة الرابعة : احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية، فقال أما قراءة (عند) بالنون، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة، ولفظة ﴿قَرْنٍ هُمْ﴾ توجب الحصر، والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم، فوجب كونهم أفضل من غيرهم رعاية للفظ الدال على الحصر، وأما من قرأ (عباد) جمع العبد، فقد ذكرنا أن لفظ العباد مخصوص في القرآن بالمؤمنين فقوله ﴿هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـانِ﴾ يفيد حصر العبودية فيهم، فإذا كان اللفظ الدال على العبودية دالاً على الفضل والشرف، كان اللفظ الدال على حصر العبودية دالاً على حصر الفضل والمنقبة والشرف فيهم وذلك يوجب كونهم أفضل من غيرهم والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٢٩
٦٣٠
اعلم أنه تعالى حكى نوعاً آخر من كفرهم وشبهاتهم، وهو أنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم، وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon