المسألة الثانية : أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل قال :﴿مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍا إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ﴾ وتقريره كأنه قيل إن القوم يقولون لما أراد الله الكفر من الكافر وخلق فيه ما أوجب ذلك الكفدر وجب أن يقبح منه أن يأمره بالإيمان لأن مثل هذا التكليف قبيح في الشاهد فيكون قبيحاً في الغائب فقال تعالى :﴿مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أي ما لهم بصحة هذا القياس من علم، وذلك لأن أفعال الواحد منا وأحكامه مبنية على رعاية المصالح والمفاسد لأجل أن كل ما سوى الله فإنه ينتفع بحصول المصالح ويستضر بحصول المفاسد، فلا جرم أن صريح طبعه وعقله يحمله على بناء أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح، أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا ينفعه شيء ولا يضره شيء فكيف يمكن القطع بأنه تعالى يبني أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح مع ظهور هذا الفارق العظيم فقوله تعالى :﴿مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أي ما لهم بصحة قياس الغائب على الشاهد في هذا الباب علم.
ثم قال :﴿إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ﴾ أي كما لم يثبت لهم صحة ذلك القياس فقد ثبت بالبرهان القاطع كونهم كذابين خراصين في ذلك القياس لأن قياس المنزّه عن النفع والضر من كل الوجوه على المحتاج المنتفع المتضرر قياس باطل في بديهة العقل.
ثم قال :﴿أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا مِّن قَبْلِه فَهُم بِه مُسْتَمْسِكُونَ﴾ يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله تعالى عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل، أما إثباته بالعقل فهو باطل لقوله ﴿مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍا إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ﴾ وأما إثباته بالنقل فهو أيضاً بالطل لقوله ﴿أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا مِّن قَبْلِه فَهُم بِه مُسْتَمْسِكُونَ﴾ والضمير في قوله ﴿مِّن قَبْلِه ﴾ للقرآن أو للرسول، والمعنى أنهم (هل) وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزّل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يعولوا عليه، وأن يتمسكوا به، والمقصود منه ذكره في معرض الإنكار، ولما ثبت أنه لم يدل عليه لا دليل عقلي ولا دليل نقلي وجب أن يكون القول به باطلاً.
ثم قال تعالى :﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى ا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ والمقصود أنه تعالى لما بيّن أن تمسك الجهال بطريقة التقليد أمر كان حاصلاً من قديم الدهر فقال :﴿وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى ا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ﴾ وفي الآية مسائل :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٣٠
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿عَلَى ا أُمَّةٍ﴾ بالكسر وكلتاهما من الأم وهو القصد، فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد كالرحلة للمرحول إليه، والإمة الحالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد.
المسألة الثانية : لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد وذلك لأنه تعالى بيّن أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي ولا بدليل نقلي، ثم بيّن أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف، وإنم ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل، ومما يدل عليه أيضاً من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق وذلك لأنه كم حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة فلو كان التقليد طريقاً إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقاً ومعلوم أن ذلك باطل.
المسألة الثالثة : أنه تعالى بيّن أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه، إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا وحب الكسل والبطالة وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال لقوله ﴿وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن﴾ والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق، وإذاعرفت هذا علمت أن رأسي جميع الآفات حب الدينا واللذات الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله والدار الآخرة، فلهذا قال عليه السلام :"حب الدنيا رأس كل خطيئة".
ثم قال تعالى لرسوله :﴿قَـالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ ﴾ أي بدين أهدى من دين آبائكم فعند هذات حكى الله عنهم أنهم قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ﴾ وإن كان أهدى مما كنا عليه، فعند هذا لم يبق لهم عذر ولا علة، فلهذا قال تعالى :﴿فَانتَقَمْنَا مِنْهُم فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ والمراد منه تهديد الكفار والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٣٠
٦٣٤


الصفحة التالية
Icon