المسألة الرابعة : القائلون بذم الجدل تمسكوا بهذه الآية إلا أنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (غافر : ٤) أن الآيات الكثيرة دالة على أن الجدل موجب للمدح والثناء، وطريق التوفيق أن تصرف تلك الآيات إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق، وأن تصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل.
ثم قال تعالى :﴿إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ يعني ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم﴾ لولدنا منك يا رجال ﴿ضَلَلْنَا فِى الارْضِ﴾ كما يخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ولتعرفوا أن دخول التوليد والتولد في الملائكة أمر ممكن وذات الله متعالية عن ذلك ﴿وَإِنَّه ﴾ أي عيسى ﴿لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط الدال على الشيء علماً لحصول العلم به، وقرأ ابن عباس :﴿لَعِلْمٌ﴾ وهو العلامة وقرىء للعلم وقرأ أبي : لذكر، وفي الحديث :"أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة وبها يقتل الدجال فيأتي ببيت المقدس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به" ﴿فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ من المرية وهو الشك ﴿وَاتَّبِعُونِ ﴾ واتبعوا هداي وشرعي ﴿هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أي هذا الذي أدعوكم إليه صراط مستقيم ﴿وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـانُا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ قد بانت عداواته لكم لأجل أنه هو الذي أخرج أباكم من الجنّة ونزع عنه لباس النور.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٤٣
٦٤٥
اعلم أنه تعالى ذكر أنه لما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات ﴿قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ﴾ وهي معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله ﴿وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيه ﴾ يعني أن قوم موسى كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحق في تلك المسائل الخلافية، وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين ﴿لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ معناه فروع الدين، فإن قيل لم لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه ؟
قلنا لأن الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة بهم إلى معرفتها، فلا يجب على الرسول بيانها، ولما بين الأصول والفروع قال :﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في الكفر به والإعراض عن دينه ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ فيما أبلغه إليكم من التكاليف ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ والمعنى ظاهر ﴿فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ﴾ أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وقيل اليهود والنصارى ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ وهو وعيد بيوم الأحزاب، فإن قيل قوله ﴿مِنا بَيْنِهِمْ ﴾ الضمير فيه إلى من يرجع ؟
قلنا إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ﴾ وهم قومه.
ثم قال :﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً﴾ فقوله أن تأتيهم بدل من الساعة والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. فإن قالوا قوله ﴿بَغْتَةً﴾ يفيد عين ما يفيده قوله ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ فما الفائدة فيه ؟
قلنا يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٤٥
٦٥١


الصفحة التالية
Icon