المسألة الخامسة : اختلفوا في أن قولنم ﴿وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ على أي وجه طلبوا فقال بعضهم على التمني، وقال آخرون على وجه الاستغاثة، وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب، وقيل لا يبعد أن يقال إنهم لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا تلك المسألة فذكروه على وجه الطلب. ثم إنه تعالى بيّن أن مالكاً يقول لهم ﴿إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ﴾ وليس في القرآن متى أجابهم، هل أجابهم في الحال أو بمدة طويلة، فلا يمتنع أن تؤخر الإجابة استخفافاً بهم وزيادة في غمهم، فعن عبد الله بن عمر بعد أربعين سنة، وعن غيره بعد مائة سنة، وعن ابن عباس بعد ألف سنة والله أعلم بذلك المقدار.
ثم بيّن تعالى أن مالكاً لما أجابهم بقوله ﴿إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ﴾ ذكر بعده ما هو كالعلة لذلك الجواب فقال :﴿لَقَدْ جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ﴾ والمراد نفرتهم عن محمد وعن القرآن وشدة بغضهم لقبول الدين الحق، فإن قيل كيف قال :﴿وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ﴾ بعد ما وصفهم بالإبلاس ؟
قلنا تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم، روي أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون ادعوا مالكاً فيدعون ﴿وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ ولما ذكر الله تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال :﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ والمعنى أم أبرموا أي مشركون مكة أمراً من كيدهم ومكرهم برسول الله، فإنا مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى :﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ (الطور : ٤٢) قال مقاتل : نزلت في تدبيرهم في المكر به في دار الندوة، وهو ما ذكره الله تعالى في قوله تعالى :﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (الأنفال : ٣٠) وقد ذكرنا القصة.
ثم قال :﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُم ﴾ السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم ﴿بَلَى ﴾ نسمعها ونطلع عليها ﴿وَرُسُلُنَا﴾ يريد الحفظة ﴿يَكْتُبُونَ﴾ عليهم تلك الأحوال، وعن يحيى بن معاذ من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٥١
٦٥٦
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي ﴿وَلَدٌ﴾ بضم الواو وإسكان اللام والباقون بفتحها ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ﴾ قرأ نافع ﴿فَأَنَا ﴾ بفتحة طويلة على النون والباقون بلا تطويل.
المسألة الثانية : اعلم أن الناس ظنوا أن قوله ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ﴾ لو أجريناه على ظاهره فإنه يقتضي وقوع الشك في إثبات ولد لله تعالى، وذلك محال فلا جرم افتقروا إلى تأويل الآية، وعندي أنه ليس الأمر كذلك وليس في ظاهر اللفظ ما يوجب العدول عن الظاهر، وتقريره أن قوله ﴿إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ﴾ قضية شرطية والقضية الشرطية مركبة من قضيتين خبريتين أدخل على إحداهما حرف الشرط وعلى الأخرى حرف الجزاء فحصل بمجموعها قضية واحدة، ومثاله هذه الآية فإن قوله ﴿إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ﴾ قضية مركبة من قضيتين : إحداهما : قوله ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ﴾، والثانية : قوله ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ﴾ ثم أدخل حرف الشرط وهو لفظة إن على لقضية الأولى وحرف الجزاء وهو الفاء على القضية الثانية فحصل من مجموعها قضية الأولى واحدة، وهو القضية الشرطية، إذ عرفت هذا فنقول القضية الشرطية لا تفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء، وليس فيه إشعار بكون الشرط حقاً أو باطلاً أو بكون الجزاء حقاً أو باطلاً، بل نقول القضية الشرطية الحقة قد تكون مركبة من قضيتين حقيتين أو من قضيتين باطلتين أو من شرط باطل وجزاء حق أو من شرط حق وجزاتء باطل، فأما القسم الرابع وهو أن تكون القضية الشرطية الحقة مركبة من شرط حق وجزاء باطل فهذا محال.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٥٦


الصفحة التالية
Icon