المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : الآية تدل على حصول هذا الوعيد الشديد للأثيم، والأثيم هو الذي صدر عنه الإثم، فيكون هذا الوعيد حاصلاً للفساق والجواب : أنا بينا في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه حرف التعريف الأصل فيه أن ينصرف إلى المذكور السابق، ولا يفيد المعموم، وههنا المذكور السابق هو الكافر، فينصرف إليه.
المسألة الرابعة : مذهب أبي حنيفة أن قرأة القرآن بالمعنى جائز، واحتج عليه بأنه نقل أن ابن مسعود كان يقرىء رجلاً هذه الآية فكان يقول : طعام اللئيم، فقال قل طعام الفاجر، وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بيناه في أصول الفقه.
ثم قال :﴿كَالْمُهْلِ﴾ قرىء بضم الميم وفتحها وسبق تفسيره في سورة الكهف، وقد شبه الله تعالى هذا الطعام بالمهل/ وهو دردى الزيت وعكر القطران ومذاب النحاس وسائر الفلزات، وتمّ الكلام ههنا، هم أخبر عن غليانه في بطون الكفار فقال :﴿يَغْلِى فِى الْبُطُونِ﴾ وقرىء بالتاء فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الشجرة، ومن قرأ بالياء حمله على الطعام في قوله ﴿طَعَامُ الاثِيمِ﴾ لأن الطعام هو (ثمر) الشجرة في المعنى، واختار أبو عبيد الياء لأن الاسم المذكور يعني المهل هو الذي بل الفعل فصار التذكير به أولى، واعلم أنه لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل لأن المهل مشبه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل كغلي الحميم والماء إذا اشتد غليانه فهو حميم.
ثم قال :﴿خُذُوهُ﴾ أي خذوا الأثيم ﴿فَاعْتِلُوهُ﴾ قرىء بكسر التاء، قال الليث : العتل أن تأخذ بمنكث الرجل فتعتله أي تجره إليك وتذهب به إلى حبس أو منحة، وأخذ فلان بزمان النقة يعتلها وذلك إذا قبض على أصل الزمام عند الرأس وقادها قوداً عنيفاً، وقال ابن السكيت عتلته إلى السجن وأعتلته إذا دعته دفعاً عنيفاً، هذا قول جميع أهل اللغة في العتل، وذكروا في اللغتين ضم التاء وكسرها وهما صيحيان مثل يعكفون ويكعفون، ويعرضون ويعرشون.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٦٨
قوله تعالى :﴿إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ﴾ أي إلى وسط الجحيم ﴿ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِه مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ﴾ وكان الأصل أن يقال : ثم صبوا من فوق رأسه الحميم أو يصب من فوق رؤوسهم الحميم إلا أن هذه الاستعارة أكمل في المبالغة كأنه يقول : صبوا عليه عذاب ذلك الحميم، ونظيره قوله تعالى :﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ (البقرة : ٢٥) و﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ (الدخان : ٤٩) وذكروا فيه وجوهاً الأول : أنه يخاطب بذلك على سبيل الاستهزاء، والمراد إنك أنت بالضد منه والثاني : أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً والثالث : أنك كنت تعتز لا بالله فانظر ما وقعت فيه، وقرىء أنك بمعنى لأنك.
ثم قال :﴿إِنَّ هَـاذَا مَا كُنتُم بِه تَمْتَرُونَ﴾ أي أن هذا العذاب ما كنتم به تمترون أي تشكون، ولمراد منه ما ذكره في أول السورة حيث قال :﴿بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ (الدخان : ٩).
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٦٨
٦٧٢
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في لآيات المتقدمة ذكر الوعد في هذه الآيات فقال :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ قال أصحابنا كل من اتقى الشرك فقد صدق عليه اسم المتقي فوجب أن يدخل الفاسق في هذا الوعد.
واعلم أنه تعالى ذكر من أسباب تنعمهم أربعة أشياء أولها : مساكنهم فقال :﴿فِى مَقَامٍ أَمِينٍ﴾.
واعلم أن المسكين إنما يطيب بشرطين أحدهما : أن يكون آمناً عن جميع ما يخاف ويحذر وهو المراد من قوله ﴿فِى مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ قرأ الجمهور في مقام بفتح الميم، وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم، قال صاحب "الكشاف" المقام بفتح الميم هو موضع القيام، والمراد المكان وهو من الخاص الذي جعل مستعملاً في المعنى العام وبالضم هو موضع الإقامة، والأمين من قولك أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن، فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنه يخون صاحبه والشرط الثاني : لطيب المكان أن يكون قد حصل فيه أسباب النزهة وهي الجنات والعيون، فلما ذكر تعالى هذين الشرطين في مساكن أهل الجنة فقد وصفها بما لا يقبل الزيادة.
والقسم الثاني : من تنعماتهم الملبوسات فقال :﴿يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ قيل السندس ما رقّ من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه، وهو تعريب استبرك، فإن قالوا كيف جاز ورود الأعجمي في القرآن ؟
قلنا لما عرب فقد صار عربياً.
والقسم الثالث : فهو جلوسهم على صفة التقابل والغرض منه استئناس البعض بالبعض، فإن قاوا الجلوس على هذا الوجه موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعله الآخر، وأيضاً فالذي يقل ثوابه إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه يتنغص عيشه، قلنا أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٧٢


الصفحة التالية
Icon