البحث الثاني : قد ذكرنا الوجوه الكثيرة في دلالة السموات والأرض على وجود الإله القادر المختار في تفسير قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ ولا بأس بإعادة بعضها فنقول إنها تدل على وجود الإله من وجوه : الأول : أنها أجسام لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فهذه الأجسام حادثة وكل حادث فله محدث الثاني : أنها مركبة من الأجزاء وتلك الأجزاء متماثلة، لما بينا أن الأجسام متماثلة، وتلك الأجزاء وقع بعضها في العمق دون السطح وبعضها في السطح دون العمق فيكون وقوع كل جزء في الموضع الذي وقع فيه من الجائزات وكل جائز فلا بد له من مرجح ومخصص الثالث : أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في تمام الماهية الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية، فيكون ذلك أمراً جائزاً ولا بد لها من مرجح الرابع : أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل كمودة زحل، وبياض المشتري، وحمرة المريخ، والضوء الباهر للشمس، ودرية الزهرة، وصفرة عطارد، ومحو القمر، وأيضاً فبعضها سعيدة، وبعضها نحسة، وبعضها نهاري ذكر، وبعضها ليلي أنثى، وقد بينا أن الأجسام في ذواتها متماثلة، فوجب أن يكون اختلاف الصفات لأجل أن الإله القادر المختار خصص كل واحد منها بصفته المعينة الخامس : أن كل فلك فإنه مختص بالحركة إلى جهة معينة ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء، وكل ذكل أيضاً من الجائزات، فلا بد من الفاعل المختار السادس : أن كل فلك مختص بشيء معين وكل ذلك أيضاً من الجائزات، فلا بد من الفاعل المختار، وتمام الوجوه مذكور في تفسير تلك الآيات.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٧٤
البحث الثالث : قوله ﴿لايَـاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ يقتضي كون هذه الآيات مختصة بالمؤمنين، وقالت المعتزلة إنها آيات للمؤمن والكافر، إلا أنه ملا انتفع بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آيات إلى المؤمنين، ونظيره قوله تعالى :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : ٢) فإنه هدىً لكل الناس كما قال تعالى :﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ (البقرة : ١٨٥) إلا أنه لما انتفع بها المؤمن خاصة لا جرم قيل ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ فكذا ههنا، وقال الأصحاب الدليل والآية هو الذي يترتب على معرفته حصول العلم، وذلك العلم إنما يحصل بخلق الله تعالى لا بإيجاب ذلك الدليل، والله تعالى إنما خلق ذلك العلم للمؤمن لا للكافر فكان ذلك آية دليلاً في حق المؤمن لا في حق الكافر والله أعلم.
ثم قال تعالى ؛ ﴿وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَـاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" : قوله ﴿وَمَا يَبُثُّ﴾ عطف على الخلق المضاف لا على الضمير المضاف إليه، لأن المضاف ضمير متصل مجرور والعطف عليه مستقبح، فلا يقال مررت بك وزيد، ولهذا طعنا في قراءة حمزة ﴿تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ ﴾ (النساء : ١) بالجر في قوله ﴿وَالارْحَامَ ﴾ وكذلك إن الذيثن استقبحوا هذا العطف، فلا يقولون مررت بك أنت وزيد.
البحث الثاني : قرأ حمزة الكسائي ﴿ءَايَـاتِ﴾ بكسر التاء وكذلك الذي بعده ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ ءَايَـاتٌ﴾ والباقون بالرفع فيهما، أما الرفع فمن وجهين ذكرهما المبرد والزجاج وأبو علي : أحدهما : العطف على موضع إن وما عملت فيه، لأن موضعهما رفع بالابتداء فيحمل الرفع فيه على الموضع، كما تقول إن زيداً منطلق وعمر، و﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه ﴾ (التوبة : ٣) لأن معنى قوله ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ﴾ أن يقول الله برىء من المشركين ورسوله، والوجه الثاني : أن يكون قوله ﴿وَفِى خَلْقِكُمْ﴾ مستأنفاً، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة أخرى كما تقول إن زيداً منطلق وعمرو كاتب، جعلت قولك وعمرو كاتب كلاماً آخر، كما تقول زيد في الدار وأخرج غداً إلى بلد كذا، فإنما حدثت بحديثين ووصلت أحدهما بالآخر بالواو، وهذا الوجه هو اختيار أبي الحسن والفراء، وأما وجه القراءة بالنصب فهو بالعطف على قوله ﴿إِنَّ فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ على معنى وإن في خلقكم لآيات ويقولون هذه القراءة إنها في قراءة أُبي وعبد الله ﴿لايَـاتٍ﴾ ودخول اللام يدل على أن الكلام محمول على إن.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٧٤
البحث الثالث : قوله ﴿وَفِى خَلْقِكُمْ﴾ معناه خلق الإنسان، وقوله ﴿وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ﴾ إشارة إلى خلق سائر الحيوانات، ووجه دلالتها على وجود الإله القادر المختار أن الأجسام متساوية فاختصاص كل واحد من الأعضاء بكونه المعين وصفته المعينة وشكله المعين، لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار، ويدخل في هذا الباب انتقاله من سن إلى سن آخر ومن حال إلى حال آخر، والاستقصاء في هذا الباب قد تقدم.


الصفحة التالية
Icon