البحث الثالث : قال الكلبي : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين : عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين : وا ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنا أفضل حالاً منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبيّن أنه لا يمكن أن يكون حال لمؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات.
واعلم أن لفظ ﴿حَسِبَ﴾ يستدعي مفعولين أحدهما : الضمير المذكور في قوله ﴿أَن نَّجْعَلَهُمْ﴾ والثاني : الكاف في قوله ﴿كَالَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا ؟
ونظيره قوله تعالى :﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُانَ﴾ (السجدة : ١٨) وقوله ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُم وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ﴾ (غافر : ٥١، ٥٢) وقوله تعالى :﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (القلم : ٣٥، ٣٦) وقوله ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ (ص : ٢٨).
ثم قال تعلى :﴿سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب، والباقون بالرفع، واختيار أبي عبيد النصب، أما وجه القراءة بالرفع، فهو أن قوله ﴿سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله ﴿أَمْ نَجْعَلُ﴾ وهو الكاف في قوله ﴿كَالَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ ونظيره قوله : ظننت زيداً أبوه منطلق، وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب "الكشاف" أجرى سواء مجرى مستوياً، فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفرداً غير جملة، ومن قرأ ﴿وَمَمَاتُهُمْ ﴾ بالنصب جعل ﴿مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ ظرفين كمقدم الحاج، وخفوق النجم، أي سواء في محياهم وفي مماتهم، قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلاً من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعله( محياهم ومماتهم سواء، قال ويجوز أن نجعله حالاً ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله ﴿كَالَّذِينَ﴾.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٨١
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله ﴿مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدينا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه، والكافر بالضد منه، كما ذكره في قوله ﴿وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ وعند القرب إلى الموت، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى :﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ طَيِّبِينَا يَقُولُونَ سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ (النمل : ٣٢) وحال الكافر ما ذكره في قوله :﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّـاـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ﴾ (النحل : ٢٨) وأما في القيامة فقال تعالى :﴿وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ (عبس : ٣٨ ـ ٤١) فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين والوجه الثاني : في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات والوجه الثالث : في التأويل أن قوله ﴿سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ مستأنف على معنى أن نحيا المسيئين ومماتهم سواء فكذلك محيا المسحنين ومماتهم، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال :﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ وهو ظاهر.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٨١


الصفحة التالية
Icon