فالفرع الأول : الرد على عبدة الأصنام فقال :﴿قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ وهي الأصنام ﴿أَرُونِىَ﴾ أي أخبروني ﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ ﴾ والمراد أن /هذه الأصنام، هل يعقل أن يضاف إليها خلق جزء من أجزاء هذا العالم ؟
فإن لم يصح ذلك فهل يجوز أن يقال إنها أعانت إله العالم في خلق جزء من أجزاء هذا العالم، ولما كان صريح العقل حاكماً بأنه لا يجوز إسناد خلق جزء من أجزاء هذا العالم إليها، وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء، ولا يجوز أيضاً إسناد الإعانة إليها في أقل الأفعال وأذلها، فحينئذ صح أن الخالق الحقيقي لهذا العالم هو الله سبحانه، وأن المنعم الحقيقي بجميع أقسام النعم هو الله سبحانه، والعبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التعظيم، وذلك لا يليق إلا بمن صدر عنه أكمل وجوه الإنعام، فلما كان الخالق الحق والمنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، وجب أن لا يجوز الإتيان بالعبادة والعبودية إلا له ولأجله، بقي أن يقال إنا لا نعبدها لأنها تستحق هذه العبادة، بل إنما نعبدها لأجل أن الإله الخالق المنعم أمرنا بعبادتها، فعند هذا ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذا السؤال، فقال :﴿ائْتُونِى بِكِتَـابٍ مِّن قَبْلِ هَـاذَآ أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ وتقرير هذا الجواب أن ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي والرسالة، فنقول هذا الوحي الدال على الأمر بعبادة هذه الأوثان، إما أن يكون على محمد أو في سائر الكتب الإلهية المنزلة على سائر الأنبياء، وإن لم يوجد ذلك في الكتب الإلهية لكنه من تقابل العلوم المنقولة عنهم والكل باطل، أما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلّم فهو معلوم البطلان، وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه، فهو أيضاً باطل، لأنه علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب الإلهية على المنع من عبادة الأصنام، وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ائْتُونِى بِكِتَـابٍ مِّن قَبْلِ هَـاذَآ﴾، وأما إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء سوى ما جاء في الكتب فهذا أيضاً باطل، لأن العلم الضروري حاصل بأن أحداً من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام، وهذا هو المراد من قوله ﴿أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ ولما بطل الكل ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل وقول فاسد وبقي في قوله تعالى :﴿أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ نوعان من البحث.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
النوع الأول : البحث اللغوي قال أبو عبيدة والفراء والزجاج ﴿أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ أي بقية وقال المبرد ﴿أَثَـارَةٍ﴾ ما يؤثر من علم أي بقية، وقال المبرد ﴿أَثَـارَةٍ﴾ تؤثر ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان، ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار يقال جاء في الأثر كذا وكذا، قال الواحدي : وكلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال : الأول : البقيةواشتقاقها من أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار الثاني : من الأثر الذي هو الرواية والثالث : هو الأثر بمعنى العلامة، قال صاحب "الكشاف" وقرىء ﴿أَثَـارَةٍ﴾ أي من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم وقرىء ﴿أَثَـارَةٍ﴾ بالحركات الثلاث مع سكون الثاء فالإثرة بالكسر بمعنى الأثر/ وأما الإثر فالمرأة من مصدر أثر الحديث إذا رواه، وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر كالخطبة اسم لما يخطب به، وههنا قول آخر في تفسير قوله تعالى :﴿أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ /وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال :﴿أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه" وعلى هذا الوجه فمعنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام، فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم والله تعالى أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥