واعلم أن هذه الآيات دالة على أن من آمن بالله وعمل صالحاً فإنهم بعد الحشر لا ينالهم خوف ولا حزن، ولهذا قال أهل التحقيق إنهم يوم القيامة آمنون من الأهوال، وقال بعضهم خوف العقاب زائل عنهم، أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول ألبتة عن العبد، ألا ترى أن الملائكة مع علو درجاتهم وكمال عصمتهم لا يزول الخوف عنهم فقال تعالى :﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ (النحل : ٥٠) وهذه المسألة سبقت بالاستقصاء في آيات كثيرة منها قوله تعالى :﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ﴾ (الأنبياء : ١٠٣).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
ثم قال تعالى :﴿ أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على مسائل أولها : قوله تعالى :﴿ أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ﴾ وهذا يفيد الحصر، وهذا يدل على أن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخل الجنة وثانيها : قوله تعالى :﴿جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وهذا يدل على فساد قول من يقول : الثواب فضل لا جزاء وثالثها : أن قوله تعالى :﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يدل على إثبات العمل للعبد ورابعها : أن هذا يدل على أنه يجوز أن يحصل الأثر في حال المؤثر، أو أي أثر كان موجوداً قبل ذلك بدليل أن العمل المتقدم أوجب الثواب المتأخر وخامسها : كون العبد /مستحقاً على الله تعالى، وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين، لا جرم أردفه بهذا المعنى، فقال تعالى :﴿وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت، وفي سورة لقمان، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا ﴾ والباقون ﴿حَسَنًا﴾.
واعلم أن الإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبيح، فمن قرأ ﴿إِحْسَـانًا ﴾ فحجته قوله تعالى في سورة بني إسرائيل ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾ (الإسراء : ٤٣) والمعنى أمرناه بأن يوصل إليهما إحساناً، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى في العنكبوت ﴿وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ (العنكبوت : ٨) ولم يختلفوا فيه، والمراد أيضاً أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسناً، إلا أنه سمى ذلك الفعل الحسن بالحسن على سبيل المبالغة، كما يقال : هذا الرجل علم وكرم، وانتصب حسناً على المصدر، لأن معنى ﴿وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ أمرناه أن يحسن إليهما ﴿إِحْسَـانًا ﴾.
ثم قال تعالى :﴿حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ﴿كَرْهًا﴾ بضم الكاف، والباقون بفتحها، قيل هما لغتان : مثل الضعف والضعف، والفقر والفقر، ومن غير المصادر : الدف والدف، والشهد والشهد، قال الواحدي : الكره مصدر من كرهت الشيء أكرهه، والكره الاسم كأنه الشيء المكروه قال تعالى :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ (البقرة : ٢١٦) فهذا بالضم، وقال :﴿أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهًا ﴾ (النساء : ١٩) فهذا في موضع الحال، ولم يقرأ الثانية بغير الفتح، فما كان مصدراً أو في موضع الحال فالفتح فيه أحسن، وما كان اسماً نحو ذهبت به على كره كان الضم فيه أحسن.
المسألة الثانية : قال المفسرون. حملته أمه على مشقة ووضعته في مشقة، وليس يريد ابتداء الحمل، فإن ذلك لا يكون مشقة، وقد قال تعالى :﴿فَلَمَّا تَغَشَّـاـاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا﴾ (الأعراف : ١٨٩) يريد ابتداء الحمل، فإن ذلك لا يكون مشقة، فالحمل نطفة وعلقة ومضغة، فإذا أثقلت فحينئذ ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ﴾ يريد شدة الطلق.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن حق الأم أعظم، لأنه تعالى قال أولاً :﴿وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ فذكرهما معاً، ثم خص الأم بالذكر، فقال :﴿حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ﴾ وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأن وصول المشاق إليها بسبب الولد أكثر، والأخبار مذكورة في هذا الباب.
ثم قال تعالى :﴿وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا من باب حذف المضاف، والتقدير ومرة حمله وفصاله ثلاثون شهراً والفصال الفطام وهو فصله عن اللبن، فإن قيل المراد بيان مدة الرضاعة لا الفطام، فكيف عبّر عنه بالفصال ؟
قلنا : لما كان الرضاع يليه الفصال ويلائمه، لأنه ينتهي ويتم به سمي فصالاً.


الصفحة التالية
Icon