ثم قال تعالى :﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ أي الهوان، وقرىء عذاب الهوان ﴿بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ فعلل تعالى ذلك العذاب بأمرين : أولهما : الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب الثاني : الفسق وهو ذنب الجوارح، وقدم الأول على الثاني لأن أحوال القلوب أعظم وقعاً من أعمال الجوارح، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يتكبرون عن قبول الدين الحق، ويستنكفون عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، وأما الفسق فهو المعاصي واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، قالوا لأنه تعالى علل عذابهم بأمرين : أولهما : الكفر وثانيهما : الفسق، وهذا الفسق لا بد وأن يكون مغايراً لذلك الكفر، لأن العطف يوجب المغايرة، فثبت أن فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات، والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
اعلم أنه تعالى لما أورد أنواع الدلائل في إثبات التوحيد والنبوّة، وكان أهل مكة بسبب /استغراقهم في لذات الدنيا واشتغالهم بطلبها أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إليها، ولهذا السبب قال تعالى في حقهم ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوة وجاهاً منهم، ثم إن الله تعالى سلّط العذاب عليهم بسبب شؤم كفرهم فذكر هذه القصة ههنا ليعتبر بها أهل مكة، فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا ويقبلوا على طلب الدين، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذه القصة في هذا الموضع، وهو مناسب لما تقدم لأن من أراد تقبيح طريقة عند قوم كان الطريق فيه ضرب الأمثال، وتقديره أن من واظب على تلك الطريقة نزل به من البلاء كذا وكذا، وقوله تعالى :﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ﴾ أي واذكر يا محمد لقومك أهل مكة هوداً عليه السلام ﴿إِذْ أَنذَرَ قَوْمَه ﴾ أي حذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا، وقوله ﴿بِالاحْقَافِ﴾ قال أبو عبيدة الحقف الرمل المعوج، ومنه قيل للمعوج محقوف وقال الفراء الأحقاف واحدها حقف وهو الكثيب المكسر غير العظيم وفيه اعوجاج، قال ابن عباس الأحقاف وادٍ بين عمان ومهرة والنذر جمع نذير بمعنى المنذر ﴿مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ من قبله ﴿وَمِنْ خَلْفِه ﴾ من بعده والمعنى أن هوداً عليه السلام قد أنذرهم وقال لهم أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم العذاب.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
واعلم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره.
ثم حكى تعالى عن الكفار أنهم ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا﴾ الإفك الصرف، يقال أفكه عن رأيه أي صرفه، وقيل بل المراد لتزيلنا بضرب من الكذب ﴿عَنْ ءَالِهَتِنَا﴾ وعن عبادتها ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ معاجلة العذاب على الشرك ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ﴾ في وعدك، فعند هذا قال هود ﴿إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ﴾ وإنما صلح هذا الكلام جواباً لقولهم ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ لأن قولهم ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ استعجال منهم لذلك العذاب فقال لهم هود لا علم عندي بالوقت الذي يحصل فيه ذلك العذاب، إنما علم ذلك عند الله تعالى ﴿وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِه ﴾ وهو التحذير عن العذاب/ وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إليّ ﴿وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ وهذا يحتمل وجوهاً الأول : المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا سائلين عن غير ما أذن لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين الثاني : أراكم قوماً تجهلون من حيث إنكم بقيتم مصرين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذ الجهل المفرط والوقاحة التامة الثالث :﴿وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ حيث تصرون على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً، ولكن لم يظهر أيضاً لكم كوني كاذباً فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥


الصفحة التالية
Icon