واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على صحة القول بالحشر والنشر ذكر بعض أحوال الكفار فقال :﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّا قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فقوله ﴿أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ ﴾ التقدير يقال لهم أليس هذا بالحق والمقصود التهكم بهم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده، وقولهم ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ (الصافات : ٥٩).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
واعلم أنه تعالى لما قرر المطالب الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد، وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلّم، وذلك لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوجسون صدره، فقال تعالى :﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ أي أولو الجد والصبر والثبات، وفي الآية قولان.
الأول : أن تكون كلمة ﴿مِنْ﴾ للتبعيض ويراد بأولو العزم بعض الأنبياء قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم على النار وذبح الولد، وإسحاق على الذبح، ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضر وموسى قال له قومه ﴿قَالَ كَلا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء : ٦١، ٦٢) وداود بكى على زلته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقال الله تعالى في آدم ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا﴾ (طه : ١١٥) وفي يونس ﴿وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ (القلم : ٤٨).
والقول الثاني : أن كل الرسل أولو عزم ولم يبعث الله رسولاً إلا كان ذا عزم وحزم، ورأي وكمال وعقل، ولفظة من في قوله ﴿مِّنَ الرُّسُلِ﴾ تبيين لا تبعيض كما يقال كسيته من الخز وكأنه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم، ووصفهم بالعزم لصبرهم وثباتهم.
ثم قال :﴿وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ﴾ ومفعول الاستعجال محذوف، والتقدير لا تستعجل لهم بالعذاب، قيل إن النبي صلى الله عليه وسلّم ضجر من قومه بعض الضجر، وأحب أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه فأمر بالصبر وترك الاستعجال، ثم أخبر أن ذلك العذاب منهم قريب، وأنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وعند نزول ذلك العذاب بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعة من نهار، والمعنى أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ، كأنه ساعة من النهار، أو كأن لم يكن لهول ما عاينوا، أو لأن الشيء إذا مضى صار كأنه لم يكن، وإن كان طويلاً قال الشاعر :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
كأن شيئاً لم يكن إذا مضى
كأن شيئاً لم يزل إذا أنى
واعلم أنه ههنا، ثم قال تعالى : أي هذا بلاغ، ونظيره قوله تعالى :﴿هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ﴾ (إبراهيم : ٢٥) أي هذا الذي وعظتم به فيه كفاية في الموعظ أو هذا تبليغ من الرسل، فهل يهلك إلا الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢


الصفحة التالية
Icon