قرىء قتلوا وقاتلوا والكل مناسب لما تقدم، أما من قرأ قتلوا فلأنه لما قال :﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ ومعناه فاقتلوهم بين ما للقاتل بقوله ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ﴾ رداً على من زعم أن القتل فساد محرم إذ هو إفناء من هو مكرم، فقال عملهم ليس كحسنة الكافر يبطل بل هو فوق حسنات الكافر أضل الله أعمال الكفار، ولن يضل القاتلين، فكيف يكون القتل سيئة، وأما من قرأ ﴿قَـاتَلُوا ﴾ فهو أكثر فائدة وأعم تناولاً، لأنه يدخل فيه من سعى في القتل سواء قتل أو لم يقتل، وأما من قرأ ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا ﴾ على البناء للمفعول فنقول هي مناسبة لما تقدم من وجوه أحدها : هو أنه تعالى /لما قال :﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ أي اقتلوا والقتل لا يتأتى إلا بالإقدام وخوف أن يقتل المقدم يمنعه من الإقدام، فقال لا تخافوا القتل فإن من يقتل في سبيل الله له من الأجر والثواب ما لا يمنع المقاتل من القتال بل يحثه عليه وثانيها : هو أنه تعالى لما قال :﴿لِّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ﴾ والمبتلى بالشيء له على كل وجه من وجوه الأثر الظاهر بالابتلاء حال من الأحوال، فإن السيف الممتحن تزيد قيمته على تقدير أن يقطع وتنقص على تقدير أن لا يقطع فحال المبتلين ماذا فقال إن قتل فله أن لا يضل عمله ويهدى ويكرم ويدخل الجنة، وأما إن قتل فلا يخفى عاجلاً وآجلاً، وترك بيانه على تقدير كونه قاتلاً لظهوره وبين حاله على تقدير كونه مقتولاً وثالثها : هو أنه تعالى لما قال :﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ولا يبتلي الشيء النفيس بما يخاف منه هلاكه، فإن السيف المهند العضب الكبير القيمة لا يجرب بالشيء الصلب الذي يخاف عليه منه الانكسار، ولكن الآدمي مكرم كرمه الله وشرفه وعظمه، فلماذا ابتلاه بالقتال وهو يفضي إلى القتل والهلاك إفضاء غير نادر، فكيف يحسن هذا الابتلاء ؟
فنقول القتل ليس بإهلاك بالنسبة إلى المؤمن فإنه يورث الحياة الأبدية فإذا ابتلاه بالقتال فهو على تقدير أن يقتل مكرم وعلى تقدير أن لا يقتل هذا إن قاتل وإن لم يقاتل، فالموت لا بد منه وقد فوت على نفسه الأجر الكبير.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
وأما قوله تعالى :﴿فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ﴾ قد علم معنى الإضلال، بقي الفرق بين العبارتين في حق الكافر والضال قال ﴿أَضَلَّ﴾ (محمد : ١) وقال في حق المؤمن الداعي ﴿فَلَن يُضِلَّ﴾، لأن المقاتل داع إلى الإيمان لأن قوله ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ قد ذكر أن معناه حتى لم يبق إثم بسبب حرب، وذلك حيث يسلم الكافر فالمقاتل يقول إما أن تسلم وإما أن تقتل، فهو داع والكافر صاد وبينهما تباين وتضاد فقال في حق الكافر أضل بصيغة الماضي، ولم يقل يضل إشارة إلى أن عمله حيث وجد عدم، وكأنه لم يوجد من أصله، وقال في حق المؤمن فلن يضل، ولم يقل ما أضل إشارة إلى أن عمله كلما ثبت عليه أثبت له، فلن يضل للتأبيد وبينهما غاية الخلاف، كما أن بين الداعي والصاد غاية التباين والتضاد، فإن قيل ما معنى الفاء في قوله ﴿فَلَن يُضِلَّ﴾ ؟
جوابه لأن في قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا ﴾ معنى الشرط.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
إن قرىء ﴿قَـاتِلُوا ﴾ أو ﴿قَـاتَلُوا ﴾ فالهداية محمولة على الآجلة والعاجلة، وإن قرىء ﴿قَـاتِلُوا ﴾ فهو الآخرة ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم.
وقوله :﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾.
قد تقدم تفسيره في قوله تعالى :﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ (محمد : ٢) والماضي والمستقبل راجع إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان والعمل الصالح، وذلك كان واقعاً منهم فأخبر عن الجزاء بصيغة تدل على /الوقوع، وههنا وعدهم بسبب القتال والقتل، فكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال، لأن قوله تعالى :﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ﴾ (محمد : ٤) يدل على الاستقبال فقال :﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
وكأن الله تعالى عند حشرهم يهديهم إلى طريق الجنة ويلبسهم في الطريق خلع الكرامة، وهو إصلاح البال ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ﴾ فهو على ترتيب الوقوع.


الصفحة التالية
Icon