اعلم أن هذا إشارة إلى الفرق بين النبي عليه السلام والكفار ليعلم أن إهلاك الكفار ونصرة /النبي عليه السلام في الدنيا محقق، وأن الحال يناسب تعذيب الكافر وإثابة المؤمن، وقوله ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ فرق فارق، وقوله ﴿مِّن رَّبِّه ﴾ مكمل له، وذلك أن البينة إذا كانت نظرية تكون كافية للفرق بين المتمسك بها وبين القائل قولاً لا دليل عليه، فإذا كانت البينة منزلة من الله تعالى تكون أقوى وأظهر فتكون أعلى وأبهر، ويحتمل أن يقال قوله ﴿مِّن رَّبِّه ﴾ ليس المراد إنزالها منه بل المراد كونها من الرب بمعنى قوله ﴿يَهْدِى مَن يَشَآءُ﴾ (المدثر : ٣١) وقولنا الهداية من الله، وكذلك قوله تعالى :﴿كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه ﴾ فرق فارق، وقوله ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم﴾ تكملة وذلك أن من زين له سوء عمله وراجت الشبهة عليه في مقابلة من يتبين له البرهان وقبله، لكن من راجت الشبهة عليه قد يتفكر في الأمر ويرجع إلى الحق، فيكون أقرب إلى من هو على البرهان، وقد يتبع هواه ولا يتدبر في البرهان ولا يتفكر في البيان فيكون في غاية البعد، فإذن حصل النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمن مع الكافر في طرفي التضاد وغاية التباعد حتى مدهم بالبينة، والكافر له الشبهة وهو مع الله وأولئك مع الهوى وعلى قولنا ﴿مِّن رَّبِّه ﴾ معناه الإضافة إلى الله، كقولنا الهداية من الله، فقوله ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم﴾ مع ذلك القول يفيد معنى قوله تعالى :﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ (النساء : ٧٩) وقوله ﴿كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه ﴾ بصيغة التوحيد محمول على لفظة من، وقوله ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم﴾ محمول على معناه فإنها للجميع والعموم، وذلك لأن التزيين للكل على حد واحد فحمل على اللفظ لقربه منه في الحس والذكر، وعند اتباع الهوى كل أحد يتبع هوى نفسه، فظهر التعدد فحمل على المعنى.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
قوله تعالى :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾.
لما بيّن الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما، وكما قدم من على البينة في الذكر على من اتبع هواه، قدم حاله في مآله على حال من هو بخلاف حاله، وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ يستدعي أمراً يمثل به فما هو ؟
نقول فيه وجوه : الأول : قول سيبويه حيث قال المثل هو الوصف معناه وصف الجنة، وذلك لا يقتضي ممثلاً به، وعلى هذا ففيه احتمالان أحدهما : أن يكون الخبر محذوفاً ويكون ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ مبتدأ تقديره فيما قصصناه مثل الجنة، ثم يستأنف ويقول ﴿فِيهَآ أَنْهَـارٌ﴾، وكذلك القول في سورة الرعد يكون قوله تعالى :﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ ﴾ (الرعد : ٣٥) ابتداء بيان والاحتمال الثاني : أن يكون فيها أنهار وقوله ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا﴾ خبراً كما يقال صف لي زيداً، فيقول القائل : زيد أحمر قصير، والقول الثاني : أن المثل زيادة والتقدير : الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار. الوجه الثاني : ههنا الممثل به محذوف غير /مذكور وهو يحتمل قولين أحدهما : قال الزجاج حيث قال :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ جنة تجري ﴿فِيهَآ أَنْهَـارٌ﴾ كما يقال مثل زيد رجل طويل أسمر فيذكر عين صفات زيد في رجل منكر لا يكون هو في الحقيقة إلا زيداً الثاني : من القولين هو أن يقال معناه ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ مثل عجيب، أو شيء عظيم أو مثل ذلك، وعلى هذا يكون قوله ﴿فِيهَآ أَنْهَـارٌ﴾ كلاماً مستأنفاً محققاً لقولنا مثل عجيب الوجه الثالث : الممثل به مذكور وهو قول الزمخشري حيث قال :﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ﴾ مشبه به على طريقة الإنكار، وحينئذ فهذا كقول القائل حركات زيد أو أخلاقه كعمرو، وكذلك على أحد التأويلين، إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر، وكذلك على أحد التأويلين، إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر، وكذلك ههنا كأنه تعالى قال : مثل الجنة كمن هو خالد في النار، وهذا أقصى ما يمكن أن يقرر به قول الزمخشري، وعلى هذا فقوله تعالى :﴿فِيهَآ أَنْهَـارٌ﴾ وما بعد هذا جمل اعتراضية وقعت بين المبتدأ والخبر كما يقال نظير زيد فيه مروءة وعنده علم وله أصل عمرو.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
ثم قال تعالى :﴿فِيهَآ أَنْهَـارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَـارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُه وَأَنْهَـارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ وَأَنْهَـارٌ مِّنْ﴾.


الصفحة التالية
Icon