ثم إنه تعالى أنزل سورة فيها القتال فإنه أشق تكليف وقوله ﴿سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ﴾ فيها وجوه : أحدها : سورة لم تنسخ ثانيها : سورة فيها ألفاظ أُريدت حقائقها بخلاف قوله ﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طه : ٥) وقوله ﴿فِى جَنابِ اللَّهِ﴾ (الزمر : ٥٦) فإن قوله تعالى :﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ (محمد : ٤) أراد القتل وهو أبلغ من قوله ﴿فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ (البقرة : ١٩١) وقوله ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ (النساء : ٩١) صريح وكذلك غير هذا من آيات القتال وعلى الوجهين فقوله ﴿مُّحْكَمَةٌ﴾ فيها فائدة زائدة من حيث إنهم لا يمكنهم أن يقولوا المراد غير ما يظهر منه، أو يقولوا هذه آية وقد نسخت فلا نقاتل، وقوله ﴿رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي المنافقين ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ لأن عند التكليف بالقتال لا يبقى لنفاقهم فائدة، فإنهم قيل القتال كانوا يترددون إلى القبيلتين وعند الأمر بالقتال لم يبق لهم إمكان ذلك ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ دعاء كقول القائل فويلٌ لهم، ويحتمل أن يكون هو خبر لمبتدأ محذوف سبق ذكره وهو الموت كأن الله تعالى لما قال :﴿نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ قال فالموت أولى لهم، لأن الحياة التي لا في طاعة الله ورسوله الموت خير منها، وقال الواحدي يجوز أن يكون المعنى فأولى لهم طاعة أي الطاعة أولى لهم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
ثم قال تعالى :﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾.
كلام مستأنف محذوف الخبر تقديره خير لهم أي أحسن وأمثل، لا يقال طاعة نكرة لا تصلح /للابتداء، لأنا نقول هي موصوفة بدل عليه قوله ﴿وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ فإنه موصوف فكأنه تعالى قال :﴿طَاعَةٌ﴾ مخلصة ﴿وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ خير، وقيل معناه قالوا ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ أي قولهم أمرنا ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ ويدل عليه قراءة أُبي ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾.
وقوله ﴿فَإِذَا عَزَمَ الامْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾.
جوابه محذوف تقديره ﴿فَإِذَا عَزَمَ الامْرُ﴾ خالفوا وتخلفوا، وهو مناسب لمعنى قراءة أُبي كأنه يقول في أول الأمر قالوا سمعاً وطاعة، وعند آخر الأمر خالفوا وأخلفوا موعدهم، ونسب العزم إلى الأمر والعزم لصاحب الأمر معناه : فإذا عزم صاحب الأمر. هذا قول الزمخشري، ويحتمل أن يقال هو مجاز كقولنا جاء الأمر وولى فإن الأمر في الأول يتوقع أن لا يقع وعند إظلاله وعجز الكاره عن إبطاله فهو واقع فقال ﴿عَزَمَ﴾ والوجهان متقاربان، وقوله تعالى :﴿فَلَوْ صَدَقُوا ﴾ فيه وجهان على قولنا المراد من قوله طاعة أنهم قالوا طاعة فمعناه لو صدقوا في ذلك القول وأطاعوا ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾ وعلى قولنا ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ خير لهم وأحسن، فمعناه ﴿فَلَوْ صَدَقُوا ﴾ في إيمانهم واتباعهم الرسول ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
وهذه الآية فيها إشارة إلى فساد قول قالوه، وهو أنهم كانوا يقولون كيف نقاتل والقتل إفساد والعرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا ؟
فقال تعالى :﴿إِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ لا يقع منكم إلا الفساد في الأرض فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنهبونه والقتال واقع بينكم، أليس قتلكم البنات إفساداً وقطعاً للرحم ؟
فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله وهذا طاعة وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في استعمال عسى ثلاثة مذاهب أحدها : الإتيان بها على صورة فعل ماضٍ معه فاعل تقول عسى زيد وعسينا وعسوا وعسيت وعسيتما وعسيتم وعست وعستا والثاني : أن يؤتى بها على صورة فعل مع مفعول تقول عساه وعساهما وعساك وعساكما وعساي وعسانا. والثالث : الإتيان بها من غير أن يقرن بها شيء تقول عسى زيد يخرج وعسى أنت تخرج وعسى أنا أخرج والكل له وجه وما عليه كلام الله أوجه، وذلك لأن عسى من الأفعال الجامدة واقتران الفاعل بالفعل أولى من اقتران المفعول لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجز فيه أربع متحركات في مثل قول القائل نصرت وجوز في مثل قولهم نصرك ولأن كل فعل له فاعل سواء كان لازماً أو متعدياً ولا كذلك المفعول به، فعسيت وعساك كعصيت وعصاك في اقتران الفاعل بالفعل /والمفعول به، وأما قول من قال عسى أنت تقوم وعسى أن أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه.
المسألة الثانية : الاستفهام للتقرير المؤكد، فإنه لو قال على سبيل الإخبار ﴿عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ لكان للمخاطب أن ينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام كأنه يقول أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر أن تجيب إلا بلا أو نعم، فهو مقرر عندك وعندي.


الصفحة التالية
Icon