أي لنأمرنكم بما لا يكون متعيناً للوقوع، بل بما يحتمل الوقوع ويحتمل عدم الوقوع كما يفعل المختبر، وقوله تعالى :﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ﴾ أي نعلم المجاهدين من غير المجاهدين ويدخل في علم الشهادة فإنه تعالى قد علمه علم الغيب وقد ذكرنا ما هو التحقيق في الابتلاء، وفي قوله ﴿حَتَّى نَعْلَمَ﴾ وقوله ﴿الْمُجَـاهِدِينَ﴾ أي المقدمين على الجهاد ﴿وَالصَّـابِرِينَ﴾ أي الثابتين الذين لا يولون الأدبار وقوله ﴿وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ﴾ يحتمل وجوهاً أحدها : قوله ﴿مِنْ﴾ (البقرة : ٨) لأن المنافق وجد منه هذا الخبر /والمؤمن وجد منه ذلك أيضاً، وبالجهاد يعلم الصادق من الكاذب، كما قال تعالى :﴿ أولئك هُمُ الصَّـادِقُونَ﴾، (الحجرات : ١٥) وثانيها : إخبارهم من عدم التولية في قوله ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الادْبَـارَ ﴾ (الأحزاب : ١٥) إلى غير ذلك، فالمؤمن وفى بعهده وقاتل مع أصحابه في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص والمنافق كان كالهباء ينزعج بأدنى صيحة وثالثها : المؤمن كان له أخبار صادقة مسموعة من النبي عليه السلام كقوله تعالى :﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ (الفتح : ٢٧)، ﴿لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى ﴾ (المجادلة : ٢١)، و﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ﴾ (الصافات : ١٧٣) وللمنافق أخبار أراجيف كما قال تعالى في حقهم ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ﴾ (الأحزاب : ٦٠) فعند تحقق الإيجاف، يتبين الصدق من الإرجاف.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥٨
فيه وجهان أحدهما : هم أهل الكتاب قريظة والنضير والثاني : كفار قريش يدل على الأول قوله تعالى :﴿مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ﴾ قيل أهل الكتاب تبين لهم صدق محمد عليه السلام، وقوله ﴿لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـاًا﴾ تهديد معناه هم يظنون أن ذلك الشقاق مع الرسول وهم به يشاقونه وليس كذلك، بل الشقاق مع الله فإن محمداً رسول الله ما عليه إلا البلاغ فإن ضروا يضروا الرسل لكن الله منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق، وقوله ﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـالَهُمْ﴾ قد علم معناه. فإن قيل قد تقدم في أول السورة أن الله تعالى أحبط أعمالهم فكيف يحبط في المستقبل ؟
فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن المراد من قوله ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (محمد : ١) في أول السورة المشركون، ومن أول الأمر كانوا مبطلين، وأعمالهم كانت على غير شريعة، والمراد من الذين كفروا ههنا أهل الكتاب وكانت لهم أعمال قبل الرسول فأحبطها الله تعالى بسبب تكذيبهم الرسول ولا ينفعهم إيمانهم بالحشر والرسل والتوحيد، والكافر المشرك أحبط عمله حيث لم يكن على شرع أصلاً ولا كان معترفاً بالحشر الثاني : هو أن المراد بالأعمال ههنا مكايدهم في القتال وذلك في تحقق منهم والله سيبطله حيث يكون النصر للمؤمنين، والمراد بالأعمال في أول السورة هو ما ظنوه حسنة.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥٨
العطف ههنا من باب عطف المسبب على السبب يقال اجلس واسترح وقم وامش لأن طاعة /الله تحمل على طاعة الرسول، وهذا إشارة إلى العمل بعد حصول العلم، كأنه تعالى قال : يا أيها الذين آمنوا علمتم الحق فافعلوا الخير، وقوله ﴿وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَـالَكُمْ﴾ يحتمل وجوهاً أحدها : دوموا على ما أنتم عليه ولا تشركوا فتبطل أعمالكم، قال تعالى :﴿ لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ (الزمر : ٦٥) الوجه الثاني :﴿وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَـالَكُمْ﴾ بترك طاعة الرسول كما أبطل الكتاب أعمالهم بتكذيب الرسول وعصيانه، ويؤيده قوله تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ إلى أن قال :﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَـالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ (الحجرات : ٢) الثالث :﴿لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى ﴾ (البقرة : ٢٦٤) كما قال تعالى :﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ا قُل لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلَـامَكُمْ ﴾ (الحجرات : ١٧) وذلك أن من يمن بالطاعة على الرسول كأنه يقول هذا فعلته لأجل قلبك، ولولا رضاك به لما فعلت، وهو مناف للاخلاص، والله لا يقبل إلا العمل الخالص.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥٨
بيّن أن الله لا يغفر الشرك وما دون ذلك يغفره إن شاء حتى لا يظن ظان أن أعمالهم وإن بطلت لكن فضل الله باق يغفر لهم بفضله، وإن لم يغفر لهم بعملهم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥٨
لما بيّن أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط، وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور، بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة، وقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول بقوله


الصفحة التالية
Icon