المسألة الأولى : قال في الأحزاب ﴿ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ (الأحزاب : ٤٥، ٤٦) وههنا اقتصر على الثلاثة من الخمسة فما الحكمة فيه ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن ذلك المقام كان مقام ذكره لأن أكثر السورة في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلّم وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد والدخول ففصل هنالك، ولم يفصل ههنا ثانيهما : أن نقول الكلام مذكور ههنا لأن قوله ﴿شَـاهِدًا﴾ لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله، ولا يدعو الناس قال هناك وداعياً لذلك/ وههنا لما لم يكن كونه ﴿شَـاهِدًا﴾ منبئاً عن كونه داعياً قال :﴿لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ﴾ دليل على كونه سراجاً لأنه أتى بما يجب من التعظيم والاجتناب عما يحرم من السوء والفحشاء بالتنزيه وهو التسبيح.
المسألة الثانية : قد ذكرنا مراراً أن اختيار البكرة والأصيل يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة، ويحتمل أن يكون أمراً بخلاف ما كان المشركون يعملونه فإنهم كانوا يجتمعون على عبادة الأصنام في الكعبة بكرةً وعشية فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر.
المسألة الثالثة : الكنايات المذكور في قوله تعالى :﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ﴾ راجعة إلى الله تعالى أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
والأصح هو الأول.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٦٥
لما بيّن أنه مرسل ذكر أن من بايعه فقد بايع الله، وقوله تعالى :﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ يحتمل وجوهاً، وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد، وإما أن تكون بمعنيين، فإن قلنا إنها بمعنى واحد، ففيه وجهان أحدهما :﴿يَدُ اللَّهِ﴾ بمعنى نعمة الله عليهم فوق إحسانهم إلى الله كما قال تعالى :﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاـاكُمْ لِلايمَـانِ﴾ (الحجرات : ١٧) وثانيهما :﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه، يقال : اليد لفلان، أي الغلبة والنصرة والقهر. وأما إن قلنا إنها بمعنيين، فنقول في حق الله تعالى بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة، واليد كناية عن الحفظ مأخوذ من حال المتبايعين إذا مد كل واحد منهما يده إلى صاحبه في البيع والشراء، وبينهما ثالث متوسط لا يريد أن يتفاسخا العقد من غير إتمام البيع، فيضع يده على يديهما، ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد، ولا يترك أحدهما يترك يد الآخر، فوضع اليد فوق الأيدي صار سبباً للحفظ على البيعة، فقال تعالى :﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ يحفظهم على البيعة كما يحفظ ذلك المتوسط أيدي المتبايعين، وقوله تعالى :﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِه ﴾ أما على قولنا المراد من اليد النعمة أو الغلبة والقوة، فلأن من نكث فوت على نفسه الإحسان الجزيل في مقابلة العمل القليل، فقد خسر ونكثه على نفسه، وأما على قولنا المراد الحفظ، فهو عائد إلى قوله ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ يعني من يبايعك أيها النبي إذا نكث لا يكون نكثه عائداً إليك، لأن البيعة مع الله ولا إلى الله، لأنه لا يتضرر بشيء، فضرره لا يعود إلا إليه. قال :﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَـاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وقد ذكرنا أن العظم في الأجرام، لا يقال إلا إذا اجتمع فيه الطول البالغ والعرض الواسع والسمك الغليظ، فيقال في الجبل الذي هو مرتفع، ولا اتساع لعرضه جبل عال أو مرتفع أو شاهق، فإذا انضم إليه الاتساع في الجوانب يقال عظيم، والأجر كذلك، لأن مآكل الجنة تكون من أرفع الأجناس، وتكون في غاية الكثرة، وتكون ممتدة إلى الأبد لا انقطاع لها، فحصل فيه ما يناسب أن يقال له عظيم والعظيم في حق الله تعالى إشارة إلى كماله في صفاته، كما أنه في الجسم إشارة إلى كماله في جهاته.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٦٥


الصفحة التالية
Icon