لما قال النبي صلى الله عليه وسلّم :﴿قُل لَّن تَتَّبِعُونَا﴾ (الفتح : ١٥) وقال :﴿فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا﴾ (التوبة : ٨٣) فكان المخلفون جمعاً كثيراً، من قبائل متشعبة، دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم فإنهم لم يبقوا على ذلك ولم يكونوا من الذين مردوا على النفاق، بل منهم من حسن حاله وصلح باله فجعل لقبول توبتهم علامة، وهو أنهم يدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد ويطيعون بخلاف حال ثعلبة حيث امتنع من أداء الزكاة ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلّم واستمر عليه الحال ولم يقبل منه أحد من الصحابة، كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أنه تعالى بيّن أنهم يدعون فإن كانوا يطيعون يؤتون الأجرر الحسن وما كان أحد من الصحابة يتركهم يتبعونه، والفرق بين حال ثعلبة /وبين حال هؤلاء من وجهين أحدهما : أن ثعلبة جاز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله، فلم يبين لتوبته علامة، والأعراب تغيرت، فإن بعد النبي صلى الله عليه وسلّم لم يبق من المنافقين على النفاق أحد على مذهب أهل السنة وثانيهما : أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير والجم الغفير أمس، لأنه لولا البيان لكان يفضي الأمر إلى قيام الفتنة بين فرق المسلمين، وفي قوله ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ وجوه أشهرها وأظهرها أنهم بنو حنيفة حيث تابعوا مسيلمة وغزاهم أبو بكر وثانيها : هم فارس والروم غزاهم عمر ثالثها : هوازن وثقيف غزاهم النبي صلى الله عليه وسلّم، وأقوى الوجوه هو أن الدعاء كان من النبي صلى الله عليه وسلّم وإن كان الأظهر غيره، أما الدليل على قوة هذا الوجه هو أن أهل السنة اتفقوا على أن أمر العرب في زمان النبي صلى الله عليه وسلّم ظهر ولم يبق إلا كافر مجاهر، أو مؤمن تقي طاهر، وامتنع النبي صلى الله عليه وسلّم من الصلاة على موتى المنافقين، وترك المؤمنون مخالطتهم حتى إن عبادة بن كعب مع كونه بين المؤمنين لم يكلمه المؤمنون مدة، وما ذكره الله علامة لظهور حال من كان منافقاً، فإن كان ظهر حالهم بغير هذا، فلا معنى لجعل هذا علامة وإن ظهر بهذا الظهور كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلّم، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو امتنع من قبولهم لاتباعه لامتنع أبو بكر وعمر لقوله تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٦٥
﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ (الأعراف : ١٥٨) وقوله ﴿فَاتَّبِعُونِى﴾ (مريم : ٤٣) فإن قيل هذا ضعيف لوجهين أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :﴿لَّن تَتَّبِعُونَا﴾ (الفتح : ١٥) وقال :﴿لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا﴾ (التوبة : ٨٣) فكيف كانوا يتبعونه مع النفي ؟
الثاني : قوله تعالى :﴿أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ ولم يبق بعد ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام حرب قوم أولي بأسٍ شديد فإن الرعب استولى على قلوب الناس ولم يبق الكفار بعده شدة وبأس، واتفاق الجمهور يدل على القوة والظهور، نقول أما الجواب عن الأول فمن وجهين أحدهما : أن يكون ذلك مقيداً، تقديره : لن تخرجوا معي أبداً وأنتم على ما أنتم عليه، ويجب هذا التقييد لأنا أجمعنا على أن منهم من أسلم وحسن إسلامه بل الأكثر ذلك، وما كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلّم أن يقول لهم لستم مسلمين لقوله تعالى :﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى ا إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ (النساء : ٩٤) ومع القول بإسلامهم ما كان يجوز أن يمنعهم ما كان من الجهاد في سبيل الله مع وجوبه عليهم وكان ذلك مقيداً، وقد تبيّن حسن حالهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم دعاهم إلى جهاد فأطاعه قوم وامتنع آخرون، وظهر أمرهم وعلم من استمر على الكفر ممن استقر قلبه على الإيمان الثاني : المراد من قوله ﴿لَّن تَتَّبِعُونَا﴾ (الفتح : ١٥) في هذا القتال فحسب وقوله ﴿لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ﴾ (التوبة : ٨٣) كان في غير هذا وهم المنافقون الذين تخلفوا في غزوة تبوك، وأما اتفاق الجمهور فنقول لا مخالفة بيننا وبينهم لأنا نقول النبي صلى الله عليه وسلّم دعاهم أولاً، وأبو بكر رضي الله عنه أيضاً دعاهم بعد معرفته جواز ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم، إنما نحن نثبت أن النبي صلى الله عليه وسلّم دعاهم فإن قالوا أبو بكر رضي الله عنه دعاهم لم يكن بين القولين تناف، وإن قالوا لم يدعهم النبي صلى الله عليه وسلّم فالنفي والجزم به في غاية البعد لجواز أن يكون ذلك قد وقع، وكيف لا والنبي عليه الصلاة والسلام قال من كلام /الله ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى﴾ (آل عمران : ٣١) وقال :﴿وَاتَّبِعُونِا هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ (الزخرف : ٦١) ومنهم من أحب الله واختار اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلّم لأن بقاء جمعهم على النفاق والكفر بعد ما اتسعت دائرة الإسلام واجتمعت العرب على الإيمان بعيد، ويوم قوله صلى الله عليه وسلّم ﴿لَّن تَتَّبِعُونَا﴾ كان أكثر العرب على الكفر والنفاق، لأنه كان قبل فتح مكة وقبل أخذ حصون كثيرة.


الصفحة التالية
Icon