﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ (التوبة : ٧٣) وقال في حقه ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة : ١٢٨) وعلى هذا قوله ﴿تَرَا هُمْ﴾ لا يكون خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلّم بل يكون عاماً أخرج مخرج الخطاب تقديره أيها السامع كائناً من كان، كما قلنا إن الواعظ يقول انتبه قبل أن يقع الانتباه ولا يريد به واحداً بعينه، وقوله تعالى :﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾ لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم، وركوع المرائي وسجوده، فإنه لا يبتغي به ذلك. وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال الراكعون والساجدون ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه ﴾ (فاطر : ٣٠) وقال الراكع يبتغي الفضل ولم يذكر الأجر لأن الله تعالى إذا قال لكم أجر كان ذلك منه تفضلاً، وإشارة إلى أن عملكم جاء على ما طلب الله منكم، لأن الأجرة لا تستحق إلا على العمل الموافق للطلب من المالك، والمؤمن إذا قال أنا أبتغي فضلك يكون منه اعترافاً /بالتقصير فقال :﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ﴾ ولم يقل أجراً.
وقوله تعالى :﴿سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ فيه وجهان أحدهما : أن ذلك يوم القيامة كما قال تعالى :﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ (آل عمران : ١٠٦) وقال تعالى :﴿نُورُهُمْ يَسْعَى ﴾ (التحريم : ٨) وعلى هذا فنقول نورهم في وجوههم بسبب توجههم نحو الحق كما قال إبراهيم عليه السلام :﴿وَتِلْكَ الامْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِا وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَالِمُونَ * خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنعام : ٧٩) ومن يحاذي الشمس يقع شعاعها على وجهه، فيتبين على وجهه النور منبسطاً، مع أن الشمس لها نور عارضي يقبل الزوال، والله نور السموات والأرض فمن يتوجه إلى وجهه يظهر في وجهه نور يبهر الأنوار وثانيهما : أن ذلك في الدنيا وفيه وجهان أحدهما : أن المراد ما يظهر في الجباه بسبب كثرة السجود والثاني : ما يظهره الله تعالى في وجوه الساجدين ليلاً من الحسن نهاراً، وهذا محقق لمن يعقل فإن رجلين يسهران بالليل أحدهما قد اشتغل بالشراب واللعب والآخر قد اشتغل بالصلاة والقراءة واستفادة العلم فكل أحد في اليوم الثاني يفرق بين الساهر في الشرب واللعب، وبين الساهر في الذكر والشكر.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
وقوله تعالى :﴿ذَالِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَا ةِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه مذكورة أحدها : أن يكون ﴿ذَالِكَ﴾ مبتدأ، و﴿مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَا ةِا وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ﴾ خبراً له، وقوله تعالى :﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَه ﴾ خبراً مبتدأ محذوف تقديره ومثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع وثانيها : أن يكون خبر ذلك هو قوله ﴿مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَا ةِ ﴾ وقوله ﴿وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ﴾ مبتدأ وخبره كزرع وثالثها : أن يكون ذلك إشارة غير معينة أوضحت بقوله تعالى :﴿كَزَرْعٍ﴾ كقوله ﴿ذَالِكَ الامْرَ أَنَّ دَابِرَ هَا ؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ (الحجر : ٦٦) وفيه وجه رابع : وهو أن يكون ذلك خبراً له مبتدأ محذوف تقديره هذا الظاهر في وجوههم ذلك يقال ظهر في وجهه أثر الضرب، فنقول أي والله ذلك أي هذا ذلك الظاهر، أو الظاهر الذي تقوله ذلك.
وقوله تعالى :﴿وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَه فَاَازَرَه فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾.
أي وصفوا في الكتابين به ومثلوا بذلك وإنما جعلوا كالزرع لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفاً وله نمو إلى حد الكمال، فكذلك المؤمنون، والشطء الفرخ و﴿فَاَازَرَه ﴾ يحتمل أن يكون المراد أخرج /الشطء وآزر الشطء، وهو أقوى وأظهر والكلام يتم عند قوله ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾.
وقوله تعالى :﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ أي تنمية الله ذلك ليغيظ أو يكون الفعل المعلل هو.
وقوله تعالى :﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي وعد ليغيظ بهم الكفار يقال رغماً لأنفك أنعم عليه.
وقوله تعالى :﴿مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا ﴾ لبيان الجنس لا للتبعيض، ويحتمل أن يقال هو للتبعيض، ومعناه : ليغيظ الكفار والذين آمنوا من الكفار لهم الأجر العظيم، والعظيم والمغفرة قد تقدم مراراً والله تعالى أعلم، وههنا لطيفة وهو أنه تعالى قال في حق الراكعين والساجدين إنهم ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ﴾ وقال : لهم أجر ولم يقل لهم ما يطلبونه من ذلك الفضل وذلك لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتد به، فقال لا أبتغي إلا فضلك، فإن عملي نزر لا يكون له أجر والله تعالى آتاه ما آتاه من الفضل وسماه أجراً إشارة إلى قبول عمله ووقوعه الموقع وعدم كونه عند الله نزراً لا يستحق عليه المؤمن أجراً، وقد علم بما ذكرنا مراراً أن قوله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ لبيان ترتب المغفرة على الإيمان فإن كل مؤمن يغفر له كما قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ (النساء : ٤٨) والأجر العظيم على العمل الصالح والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١


الصفحة التالية
Icon