المسألة الأولى : قوله تعالى :﴿لا تُقَدِّمُوا ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون من التقديم الذي هو متعد، وعلى هذا ففيه وجهان : أحدهما : ترك مفعوله برأسه كما في قوله تعالى :/﴿لا إِلَـاهَ﴾ وقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يريد بهما إعطاء شيء معين ولا منع شيء معين وإنما يريد بهما أن له منعاً وإعطاء كذلك ههنا، كأنه تعالى يقول لا ينبغي أن يصدر منكم تقديم أصلاً والثاني : أن يكون المفعول الفعل أو الأمر كأنه يقول ﴿لا تُقَدِّمُوا ﴾ يعني فعلاً ﴿بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ أو لا تقدموا أمراً الثاني : أن يكون المراد ﴿لا تُقَدِّمُوا ﴾ بمعنى لا تتقدموا، وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد هو نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً عند النبي صلى الله عليه وسلّم يقال فلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره وعلا شأنه، والسبب فيه أن من ارتفع يكون متقدماً في الدخول في الأمور العظام، وفي الذكر عند ذكر الكرام، وعلى هذا نقول سواء جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً، فالمعنى واحد لأن قوله ﴿لا تُقَدِّمُوا ﴾ إذا جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً، فتقديره لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً ورأياً عنده، ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمراً وفعلاً، وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى، وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال، وقوله تعالى :﴿بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ أي بحضرتهما لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه وفي قوله ﴿بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ فوائد : أحدها : أن قول القائل فلان بين يدي فلان، إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضراً عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان، لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر، ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك، ولأن اليدين تنبىء عن القدرة يقول القائل هو بين يدي فلان، أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه، وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم، وتقديم النفس لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم وثانيها : ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره، وذلك لأن احترام الرسول صلى الله عليه وسلّم قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله فقال :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
﴿بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ﴾ أي أنتم بحضرة من الله تعالى وهو ناظر إليكم، وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله وثالثها : هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله ﴿وَاتَّقُوا ﴾ لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديراً بأن يتقيه، وقوله تعالى :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ يحتمل أن يكون ذلك عطفاً يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل لا تتم واشتغل، أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر، وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان، بل المطلوب بذلك الاشتغال فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى، ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك، وهي التي في قول القائل احترم زيداً واخدمه، أي ائت بأتم الاحترام، فكذلك ههنا معناه لا تتقدموا عنده وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا /بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له اتقوا الله واخشوه وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام وقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا آمنا، لأن الخطاب يفهم بقوله ﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة، فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم، بل ينبغي أن يتم مما في سمعه من قولكم آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر، وهو عدم التقدم وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
﴿لا تُقَدِّمُوا ﴾ (الحجرات : ١) نهي عن فعل ينبىء عن كونهم جاعلين لأنفسهم عند الله ورسوله بالنسبة إليهما وزناً ومقداراً ومدخلاً في أمر من أوامرهما ونواهيهما، وقوله ﴿لا تَرْفَعُوا ﴾ نهي عن قول ينبىء عن ذلك الأمر، لأن من يرفع صوته عند غيره يجعل لنفسه اعتباراً وعظمة وفيه مباحث :


الصفحة التالية
Icon