الفائدة الثانية : أن قوله تعالى :﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ لما كان من جنس ﴿وَلا تَجْهَرُوا ﴾ لم يستأنف النداء، ولما كان هو يخالف التقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كما في قول لقمان ﴿يَعِظُه يَـابُنَىَّ لا تُشْرِكْ﴾ (لقمان : ١٣) وقوله ﴿لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا * أَقِمِ الصَّلَواةَ﴾ (لقمان : ١٧) لكون الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح، وقوله ﴿لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَـابُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَواةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ﴾ من غير استئناف النداء لأن الكل من عمل الجوارح.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
واعلم أنا إن قلنا المراد من قوله ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ أي لا تكثروا الكلام فقوله ﴿وَلا تَجْهَرُوا ﴾ يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عن النبي صلى الله عليه وسلّم بقدر ما يؤتى به عند غيره، أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل، وكذلك إن قلنا المراد بالرفع الخطاب فالمراد بقوله ﴿وَلا تَجْهَرُوا ﴾ أي لا تخاطبوه كما تخاطبون غيره وقوله تعالى :﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَـالُكُمْ﴾ فيه وجهان مشهوران : أحدهما : لئلا تحبط والثاني : كراهة أن تحبط، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى :﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ﴾ (النساء : ١٧٦) وأمثاله، ويحتمل ههنا وجهاً آخر وهو أن يقال معناه : واتقوا الله واجتنبوا أن تحبط أعمالكم، والدليل على هذا أن الإضمار لما لم يكن منه بد فما دل عليه الكلام الذي هو فيه أولى أن يضمر والأمر بالتقوى قد سبق في قوله تعالى :﴿وَاتَّقُوا ﴾ (الحجرات : ١) وأما المعنى فنقول قوله ﴿أَن تَحْبَطَ﴾ إشارة إلى أنكم إن رفعتم أصوتكم وتقدمتكم تتمكن منكم هذه الرذائل وتؤدي إلى الاستحقار، وإنه يفضي إلى الانفراد والارتداد المحبط وقوله تعالى :﴿وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ إشارة إلى أن الردة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان، فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نادماً غاية الندامة خائفاً غاية الخوف فإذا ارتكبه مراراً يقل الخوف والندامة ويصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن، وهذا كان للتمكن في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما أن من بلغه خبر فإنه لا يقطع بقول المخبر في المرة الأولى/ فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ حد التواتر يحصل له اليقين ويتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك، وعند أي خبر حصل هذا اليقين، فقوله ﴿وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تعفي ولا توجب رده، لأن الأمر غير معلوم فاحسموا الباب، وفيه بيان آخر وهو أن المكلف إذا لم يحترم النبي صلى الله عليه وسلّم ويجعل نفسه مثله فيما يأتي به بناء على أمره يكون كما يأتي به بناء على أمر نفسه، لكن ما تأمر به النفس لا يوجب الثواب وهو محبط حابط، كذلك ما يأتي به بغير أمر النبي صلى الله عليه وسلّم حينئذ حابط محبط والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
واعلم أن الله تعالى لما أمر المؤمنين باحترام النبي صلى الله عليه وسلّم وإكرامه وتقديمه على أنفسهم وعلى كل من خلقه الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بالرأفة والرحمة، وأن يكون أرأف بهم من الوالد، كما قال :﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الحجر : ٨٨) وقال تعالى :﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم﴾ (الكهف : ٢٨) وقال :﴿وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ (القلم : ٤٨) إلى غير ذلك لئلا تكون خدمته خدمة الجبارين الذين يستعبدون الأحرار بالقهر فيكون انقيادهم لوجه الله.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١


الصفحة التالية
Icon