ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ تحقيقاً لأمرين أحدهما : لسوء صنيعهم في التعجل، فإن الإنسان إذا أتى بقبيح ولا يعاقبه الملك أو السيد يقال ما أحلم سيده لا لبيان حلمه، بل لبيان عظيم جناية العبد وثانيهما : لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير، يغفر الله لهم سيئاتهم ويجعل هذه الحسنة كفارة لكثير من السيئات، كما يقال للآبق إذا رجع إلى باب سيده أحسنت في رجوعك وسيدك رحيم، أي لا يعاقبك على ما تقدم من ذنبك بسبب ما أتيت به من الحسنة ويمكن أن يقال بأن ذلك حث للنبي صلى الله عليه وسلّم على الصفح، وقوله تعالى :﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ كالعذر لهم، وقد ذكرنا أن الله تعالى ذكر في بعض المواضع الغفران قبل الرحمة، كما في هذه السورة وذكر الرحمة قبل المغفرة في سورة سبأ في قوله ﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ (سبأ : ٢) فحيث قال : غفور رحيم أي يغفر سيئاته ثم ينظر إليه فيراه عارياً محتاجاً فيرحمه ويلبسه لباس الكرامة وقد يراه مغموراً في السيئات فيغفر سيئاته، ثم يرحمه بعد المغفرة، فتارة تقع الإشارة إلى الرحمة التي بعد المغفرة فيقدم المغفرة، وتارة تقع الرحمة قبل المغفرة فيؤخرها، ولما كانت الرحمة واسعة توجد قبل المغفرة وبعدها ذكرها قبلها وبعدها.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما مع الله تعالى أو مع الرسول صلى الله عليه وسلّم أو مع غيرهم من أبناء الجنس، وهم على صنفين، لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها وهو الفاسق والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم فهذه خمسة أقسام أحدها : يتعلق بجانب الله وثانيها : بجانب الرسول وثالثها : بجانب الفساق ورابعها : بالمؤمن الحاضر وخامسها : بالمؤمن الغائب فذكرهم الله تعالى في هذه السورة خمس مرات ﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة فقال أولاً :﴿عَظِيمَا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ (الحجرات : ١) وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله، وقال ثانياً :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ﴾ (الحجرات : ٢) لبيان وجوب احترم النبي صلى الله عليه وسلّم وقال ثالثاً :﴿رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ﴾ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة /بينكم وبين ذلك عند تفسير قوله ﴿وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾ (الحجرات : ٩) وقال رابعاً :﴿تُرْحَمُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ﴾ (الحجرات : ١١) وقال :﴿وَلا تَنَابَزُوا ﴾ (الحجرات : ١١) لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم، وقال خامساً :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ (الحجرات : ١٢) وقال :﴿وَلا تَجَسَّسُوا ﴾ (الحجرات : ١٢) وقال :﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ﴾ لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى، وهو في غاية الحسن من الترتيب، فإن قيل : لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة الابتداء بالله ورسوله، ثم بالمؤمن الحاضر، ثم بالمؤمن الغائب، ثم بالفاسق ؟
نقول : قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم ذكر جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفاراً للصدور، وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتل، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال، فقال :﴿وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾ وفي التفسير مسائل :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١


الصفحة التالية
Icon