المسألة الثانية : إذا كان المراد من قوله ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو /متبع للوحي فلم لم يصرح به ؟
نقول بيان نفي الشيء مع بيان دليل النفي أتم من بيانه من غير دليل، والجملة الشرطية بيان النفي مع بيان دليله فإن قوله (ليس فيهما آلهة) لو قال قائل : لم قلت إنه ليس فيهما آلهة يجب أن يذكر الدليل فقال :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ (الأنبياء : ٢٢) فكذلك ههنا لو قال لا يطيعكم، وقال قائل لم لا يطيع لوجب أن يقال لو أطاعكم لأطاعكم لأجل مصلحتكم، لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشق عليه عنتكم، كما قال تعالى :﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ (التوبة : ١٢٨) فإن طاعتكم لا تفيده شيئاً فلا يطيعكم، فهذا نفي الطاعة بالدليل وبين نفي الشيء بدليل ونفيه بغير دليل فرق عظيم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
المسألة الثالثة : قال ﴿فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامْرِ﴾ ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لفائدة قوله تعالى :﴿وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ ﴾.
المسألة الرابعة : إذا كان المراد بقوله تعالى ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ﴾، فلا تتوقفوا فلم لم يصرح به ؟
قلنا لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ تلك المرتبة لأن من بلغ إلى درجة الظن فإنه يتوقف إلى أن يبلغ درجة اليقين، فلما كان عدم التوقف في اليقين معلوماً متفقاً عليه لم يقل فلا تتوقفوا بل قال حبب إليكم الإيمان، أي بينه وزينه بالبرهان اليقيني.
المسألة الخامسة : ما المعنى في قوله ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ﴾ نقول قوله تعالى :﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ﴾ أي قربه وأدخله في قلوبكم ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم، وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئاً منها إذا حصل عنده وطال لبثه والإيمان كل يوم يزداد حسناً، ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم، تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل، ولهذا قال في الأول :﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ﴾ وقال ثانياً :﴿وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ﴾ كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم.
المسألة السادسة : ما الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان ؟
فنقول هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل لأن الإيمان الكامل المزين، هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان أحدها : قوله تعالى :﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ﴾ وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان والفسوق هو الكذب وثانيها : هو ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى :﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ﴾ (الحجرات : ٦) سمي من كذب فاسقاً فيكون الكذب فسوقاً ثالثها : ما ذكره بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى :﴿بِئْسَ ا سْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَـانِ ﴾ (الحجرات : ١١) فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم، وسنبين تفسيره إن شاء الله تعالى ورابعها : وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل : فسقت الرطبة إذا خرجت، وغير ذلك لأن الفسوق هو الخروج زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة، لكن الخروج لا يكون /له ظهور بالأمر القلبي، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى، ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطىء أو متعمد، وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب، وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق، فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن، وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان : ١٣).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
ثم قال تعالى :﴿وَالْفُسُوقَ﴾ يعني ما يظهر لسانكم أيضاً، ثم قال :﴿وَالْعِصْيَانَ ﴾ وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان، وقال بعض الناس الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة، والعصيان هو الصغيرة، وما ذكرناه أقوى.
ثم قال تعالى :﴿ أولئك هُمُ الراَّشِدُونَ﴾.
خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلّم وفيه معنى لطيف : وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه ﴾ أي هو مرشد لكم فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين، فقال في الأول كفى النبي مرشداً لكم ما تسترشدونه فأشفق عليهم وأرشدهم، وعلى هذا قوله ﴿الراَّشِدُونَ﴾ أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
فيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon