المسألة الثالثة : قال تعالى :﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولم يقل منكم، مع أن الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى :﴿رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ﴾ (الحجرات : ٦) تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنهم، كما يقول السيد لعبده : إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن، كأنه يقول : أنت حاشاك أن تفعل ذلك، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك ههنا قال :﴿وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
المسألة الرابعة : قال تعالى :﴿وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾ ولم يقل : وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين، مع أن كلمة ﴿ءَانٍ﴾ اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال، فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة ﴿ءَانٍ﴾ وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما، فإن قيل فلم لم يقل : يا أيها الذين آمنوا إن فاسق جاءكم، أو إن أحد من الفساق جاءكم، ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه، وهو كونه فاسقاً ؟
نقول المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الإنسان فاسقاً، أو يزداد بسببه فسقه، فالمجيء به سبب الفسق فقدمه. وأما الاقتتال فلا يقع سبباً للإيمان أو الزيادة، فقال :﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ ﴾ أي سواء كان فاسقاً أو لا أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به، ولو قال : وإن أحد من الفساق جاءكم، كان لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنبأ.
المسألة الخامسة : قال تعالى :﴿اقْتَتَلُوا ﴾ ولم يقل : يقتتلوا، لأن صيغة الاستقبال تنبىء عن الدوام والاستمرار، فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك، يقال فلان يتهجد ويصوم.
المسألة السادسة : قال :﴿اقْتَتَلُوا ﴾ ولم يقل اقتتلا، وقال :﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ ولم يقل بينهم، ذلك لأن عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة، وكل أحد برأسه يكون فاعلاً فعلاً، فقال :﴿اقْتَتَلُوا ﴾ وعند العود إلى الصلح تتفق كلمة كل طائفة، وإلا لم يكن يتحقق الصلح فقال :﴿بَيْنَهُمَآ﴾ لكون /الطائفتين حينئذ كنفسين.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
ثم قال تعالى :﴿فَإِنا بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا﴾ إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي، لأنه غير متوقع، فإن قيل كيف يصح في هذا الموضع كلمة ﴿ءَانٍ﴾ مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه، وبغي أحدهما عند الاقتتال لا بد منه، إذ كل واحد منهما لا يكون محسناً، فقوله ﴿ءَانٍ﴾ تكون من قبيل قول القائل : إن طلعت الشمس، نقول فيه معنى لطيف، وهو أن الله تعالى يقول : الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع، وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد، فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد، وهو خطأ، فقال تعالى : الاقتتال لا يقع إلا كذا، فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر، وعند ذلك يكون قد بغى فقال :﴿فَإِنا بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا عَلَى الاخْرَى ﴾ يعني بعد استبانة الأمر، وحينئذ فقوله ﴿فَإِنا بَغَتْ﴾ في غاية الحسن لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع، وفيه أيضاً مباحث الأول : قال :﴿فَإِنا بَغَتْ﴾ ولم يقل فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى :﴿اقْتَتَلُوا ﴾ ولم يقل يقتتلوا الثاني : قال :﴿حَتَّى تَفِى ءَ﴾ إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب، بل القتال إلى حد الفيئة، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم الثالث : هذا القتال لدفع الصائل، فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حلَّ القتال الرابع : هذا دليل على أن المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمناً لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين الخامس : قوله تعالى :﴿إِلَى ا أَمْرِ اللَّه ﴾ يحتمل وجوهاً أحدها : إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى :﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الامْرِ مِنكُمْ ﴾ (النساء : ٥٩). وثانيها : إلى أمر الله، أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى :﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾، ثالثها : إلى أمر الله بالتقوى، فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان كما قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١


الصفحة التالية
Icon