ثم قال تعالى :﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ﴾ إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان أحدها : في قوله تعالى :﴿بَّعْضُكُم بَعْضًا ﴾ فإنه للعموم في الحقيقة كقوله ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ (الحجرات : ١١) وأما من اغتاب فالمغتاب أولاً يعلم عيبه فلا يحمل فعله على أن يغتابه فلم يقل ولا تغتابوا أنفسكم لما أن الغيبة ليست حاملة للعائب على عيبه من اغتابه، والعيب حامل على العيب ثانيها : لو قال قائل هذا المعنى كان حاصلاً بقوله تعالى : لا تغتابوا، مع الاقتصار عليه نقول لا، وذلك لأن الممنوع اغتياب المؤمن فقال :﴿بَّعْضُكُم بَعْضًا ﴾ وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه وكيف لا والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة ثالثها : قوله تعالى :﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾ دليل على أن الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر، وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ، وقال من قبل ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات : ١٠) فلا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر رابعها : ما الحكمة في هذا التشبيه ؟
نقول هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهذا من باب القياس الظاهر، وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأن ذلك آلم، وقوله ﴿لَحْمَ أَخِيهِ﴾ آكد في المنع لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو، فقال أصدق الأصدقاء من ولدته أمك، فأكل لحمه أقبح /ما يكون، وقوله تعالى :﴿مَيْتًا﴾ إشارة إلى دفع وهم، وهو أن يقال القول في الوجه يؤلم فيحرم، وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم، فقال أكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم، ومع هذا هو في غاية القبح لما أنه لو اطلع عليه لتألم/ كما أن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى : وهو أن الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتاً، ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت فلا يأكل لحم الآدمي، فكذلك المغتاب أن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، وقوله تعالى :﴿مَيْتًا﴾ حال عن اللحم أو عن الأخ، فإن قيل اللحم لا يكون ميتاً، قلنا بلى قال النبي صلى الله عليه وسلّم :"ما أبين من حي فهو ميت" فسمى الغلفة ميتاً، فإن قيل إذا جعلناه حال عن الأخ، لا يكون هو الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حال، كما يقول القائل : مررت بأخي زيد قائماً، ويريد كون زيداً قائماً، قلنا يجوز أن يقال من أكل لحمة فقد أكل، فصار الأخ مأكولاً مفعولاً، بخلاف المرور بأخي زيد، فيجوز أن تقول ضربت وجهه آثماً أي وهو آثم، أي صاحب الوجه، كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته، ولا يجوز أن تقول مزقت ثوبه آثماً، فتجعل الآثم حالاً من غيرك، وقوله تعالى :﴿فَكَرِهْتُمُوه ﴾ فيه مسألتان :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
المسألة الأولى : العائد إليه الضمير يحتمل وجوهاً الأول : وهو الظاهر أن يكون هو الأكل، لأن قوله تعالى :﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ﴾ معناه أيحب أحدكم الأكل، لأن أن مع الفعل تكون للمصدر، يعني فكرهتم الأكل الثاني : أن يكون هو اللحم، أي فكرهتم اللحم الثالث : أن يكون هو الميت في قوله ﴿مَيْتًا﴾ وتقديره : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه، فكأنه صفة لقوله ﴿مَيْتًا﴾ ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير، يعني الميتة إن أكلت في الندرة لسبب كان نادراً، ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً، فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة.
المسألة الثانية : الفاء في قوله تعالى :﴿فَكَرِهْتُمُوه ﴾ تقتضي وجود تعلق، فما ذلك ؟
نقول فيه وجوه أحدها : أن يكون ذلك تقدير جواب كلام، كأنه تعالى لما قال :﴿أَيُحِبُّ﴾ قيل في جوابه ذلك وثانيها : أن يكون الاستفهام في قوله ﴿أَيُحِبُّ﴾ للانكار كأنه قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه إذاً ولا يحتاج إلى إضمار وثالثها : أن يكون ذلك التعلق هو تعلق المسبب بالسبب، وترتبه عليه كما تقول : جاء فلان ماشياً فتعب، لأن المشي يورث التعب، فكذا قوله ﴿مَيْتًا﴾ لأن الموت يورث النفرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت، فكيف يقربه بحيث يأكل منه، ففيه إذاً كراهة شديدة، فكذلك ينبغي أن يكون حال الغيبة.


الصفحة التالية
Icon