ثم قال تعالى :﴿وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآاـاِلَ﴾ وفيه وجهان : أحدهما :﴿جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم، وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل وثانيهما :﴿وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا﴾ داخلين في قبائل، فإن القبيلة تحتها الشعوب، وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ، وتحت الأفخاذ الفصائل، وتحت الفضائل الأقارب، وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار، لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة، وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة، ثم بيّن فائدة ذلك وهي التعارف وفيه وجهان : أحدهما : أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر وثانيهما : أن فائدته التعارف لا التناكر، واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف وفيه معان لطيفة الأولى : قال تعالى :﴿إِنَّا خَلَقْنَـاكُم﴾ وقال :﴿وَجَعَلْنَـاكُمْ﴾ لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل ﴿شُعُوبًا﴾ فإن الأول هو الخلق والإيجاد، ثم الاتصاف بما اتصفوا به، لكن الجعل شعوباً للتعارف والخلق للعبادة كما قال تعالى :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦) واعتبار الأصل متقدم على اعتبار الفرع، فاعلم أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل شعوباً يتحقق بعد ما يتحقق الخلق، فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا فلا الثانية : قوله تعالى :﴿خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا﴾ إشارة إلى عدم جواز الافتخاز لأن ذلك ليس لسعيكم ولا قدرة لكم على شيء من ذلك، فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه ؟
فإن قيل الهداية والضلال كذلك لقوله تعالى :﴿إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ﴾ (الإنسان : ٣) ﴿نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ﴾ (الشورى : ٥٢) فنقول أثبت الله لنا فيه كسباً مبنياً على فعل، كم قال الله تعالى :﴿فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا﴾.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
ثم قال تعالى :﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه ﴾ وأما في النسب فلا الثالثة : قوله تعالى :﴿لِتَعَارَفُوا ﴾ إشارة إلى قياس خفي، وبيانه هو أنه تعالى قال : إنكم جعلتم قبائل لتعارفوا وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقكم لتعرفوا ربكم، فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل الافتخار بذلك الرابعة : فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب، وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص فإن كان ذلك الشخص شريفاً صح الافتخار في ظنكم، وإن لم يكن شريفاً لم يصح، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة/ فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء، وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر، فكيف /يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد ؟
اللّهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإن أحداً لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك، ولكن في هذا النسب أثبت النبي صلى الله عليه وسلّم الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب، ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب، فقال :"نحن معاشر الأنبياء لا نورث". وقال :"العلماء ورثة الأنبياء" أي لا نورث بالانتساب، وإنما نورث بالاكتساب، سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي عليه السلام غير أنه كان فاسقاً، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل، ومال الناس إلى التبرك به فاتفق أنه خرج يوماً من بيته يقصد المسجد، فأتبعه خلق فلقيه الشريف سكران، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال له : يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول الله، أذل وتجل وأذم وتكرم وأهان وتعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا هذا محتمل منه لجده، وضربه معدود لحده، ولكن يا أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت، وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك/
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١


الصفحة التالية
Icon