الأول : القرآن مقسم به فالمقسم عليه ماذا ؟
نقول فيه وجوه وضبطها بأن نقول، ذلك إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مقالية، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة، فإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متقدمة فلا متقدم هناك لفظاً إلا ﴿قا ﴾ فيكون التقدير : هذا ﴿قا وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ﴾ أو ﴿قا ﴾ أنزلها الله تعالى :﴿وَالْقُرْءَانِ﴾ كما يقول هذا حاتم والله أي هو المشهور /بالسخاء ويقول الهلال رأيته والله، وإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متأخرة، فنقول ذلك أمران : أحدهما : المنذر والثاني : الرجع، فيكون التقدير : والقرآن المجيد إنك المنذر، أو : والقرآن المجيد إن الرجع لكائن، لأن الأمرين ورد القسم عليهما ظاهراً، أما الأول : فيدل عليه قوله تعالى :﴿يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى أن قال :﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ﴾ (يس : ١ ـ ٦). وأما الثاني : فدل عليه قوله تعالى :﴿وَالطُّورِ * وَكِتَـابٍ مُّسْطُورٍ﴾ إلى أن قال :﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ (الطور : ١ ـ ٧) وهذا الوجه يظهر عليه غاية الظهور على قول من قال ﴿قا ﴾ اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن، وهناك القسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن، فإن قيل أي الوجهين منهما أظهر عندك ؟
قلت الأول : لأن المنذر أقرب من الرجع، ولأن الحروف رأيناها مع القرآن والمقسم كونه مرسلاً ومنذراً، وما رأينا الحروف ذكرت ويعدها الحشر، واعتبر ذلك في سورة منها قوله تعالى :﴿الاـم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ﴾ (السجدة : ١ ـ ٣) ولأن القرآن معجزة دالة على كون محمد رسول الله، فالقسم به عليه يكون إشارة إلى الدليل على طريقة القسم، وليس هو بنفسه دليلاً على الحشر، بل فيه أمارات مفيدة للجزم بالحشر بعد معرفة صدق الرسول، وأما إن قلنا هو مفهوم بقرينة حالية، فهو كون محمد صلى الله عليه وسلّم على الحق ولكلامه صفة الصدق، فإن الكفار كانوا ينكرون ذلك والمختار ما ذكرناه والثاني :﴿بَلْ عَجِبُوا ﴾ (ق : ٢) يقتضي أن يكون هناك أمر مضرب عنه فما ذلك ؟
نقول قال الواحدي ووافقه الزمخشري إنه تقدير قوله ما الأمر كما يقولون ونزيده وضوحاً، فنقول على ما اخترناه : فإن التقدير والله أعلم ق والقرآن والقرآن المجيد إنك لتنذر، فكأنه قال بعده وإنهم شكوا فيه فأضرب عنه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
وقال :﴿بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ﴾.
يعني لم يقتنعوا بالشك في صدق الأمر وطرحه بالترك وبعد الإمكان، بل جزموا بخلافه حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، فإن قيل فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمضرب عنه، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوفيق العزيز ؟
فنقول إنما حذف المقسم عليه لأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر، وذلك لأن من ذكر الملك العظيم في مجلس وأثنى عليه يكون قد عظمه، فإذا قال له غيره هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاً على عظمته فوق ما يستفيد صاحبه بذكره فالله تعالى يقول لبيان رسالتك أظهر من أن يذكر، وأما حذف المضرب عنه، فلأن المضرب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمر آخر إنما يحسن إذا كان بين المذكورين تفاوت ما، فإذا عظم التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب، مثاله يحسن أن يقال /الوزير يعظم فلاناً بل الملك يعظمه، ولا يحسن أن يقال البواب يعظم فلاناً بل الملك يعظمه لكون البون بينهما بعيداً، إذ الإضراب للتدرج، فإذا ترك المتكلم المضرب عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب استفيد منه أمران أحدهما : أنه يشير إلى أمر آخر قبله وثانيهما : أنه يجعل الثاني تفاوتاً عظيماً مثل ما يكون ومما لا يذكر، وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد.
المبحث الثالث : أن مع الفعل يكون بمثابة ذكر المصدر، تقول أمرت بأن أقوم وأمرت بالقيام، وتقول ما كان جوابه إلا أن قال وما كان جوابه إلا قوله كذا وكذا، وإذا كان كذلك فلم ينزل عن الإتيان بالمصدر حيث جاز أن يقال أمرت أن أقوم من غير حرف الإلصاق، ولا يجوز أن يقال أمرت القيام بل لا بد من الباء، ولذلك قالوا أي عجبوا من مجيئه، نقول ﴿أَن جَآءَهُم﴾ وإن كان في المعنى قائماً مقام المصدر لكنه في الصورة فعل وحرف، وحروف التعدية كلها حروف جارة والجار لا يدخل على الفعل، فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقل من أن يجوز عدم الدخول، فجاز أن يقال ﴿عَجِبُوا أَن جَآءَهُم﴾ ولا يجوز عجبوا مجيئهم لعدم المانع من إدخال الحروف عليه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩


الصفحة التالية
Icon