المسألة الثانية : ذلك إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار، وقوله ﴿هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ﴾ (ق : ٢) إشارة إلى المجيء على ما قلنا، فلما اختلفت الصفتان نقول المجيء والجائي كل واحد حاضر. وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك، الرجع مصدر رجع يرجع إذا /كان متعدياً، والرجوع مصدره إذا كان لازماً، وكذلك الرجعي مصدر عند لزومه، والرجع أيضاً يصح مصدراً للازم، فيحتمل أن يكون المراد بقوله ﴿ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ﴾ أي رجوع بعيد، ويحتمل أن يكون المراد الرجع المتعدي، ويدل على الأول قوله تعالى :﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾ (العلق : ٨) وعلى الثاني قوله تعالى :﴿أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ﴾ (النازعات : ١٠) أي مرجعون فإنه من الرجع المتعدي، فإن قلنا هو من المتعدي، فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
إشارة إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه، وذلك لأن الله تعالى بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على الجمع والتأليف، فليس الرجوع منه ببعد، وهذا كقوله تعالى :﴿وَهُوَ الْخَلَّـاقُ الْعَلِيمُ﴾ (يس : ١١) حيث جعل للعلم مدخلاً في الإعادة، وقوله ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارْضُ﴾ يعني لا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في تخوم الأرضين، وهذا جواب لما كانوا يقولون ﴿أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ﴾ (السجدة : ١٠) يعني أن ذلك إشارة إلى أنه تعالى كما يعلم أجزاؤهم يعلم أعمالهم من ظلمهم، وتعديهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون، ويحتمل أن يقال معنى قوله تعالى :﴿وَعِندَنَا كِتَـابٌ حَفِيظُ ﴾ هو أنه عالم بتفاصيل الأشياء، وذلك لأن العلم إجمالي وتفصيلي، فالإجمالي كما يكون عند الإنسان الذي يحفظ كتاباً ويفهمه، ويعلم أنه إذا سئل عن أية مسألة تكون في الكتاب يحضر عنده الجواب، ولكن ذلك لا يكون نصب عينيه حرفاً بحرف، ولا يخطر بباله في حالة باباً باباً، أو فصلاً فصلاً، ولكن عند العرض على الذهن لا يحتاج إلى تجديد فكر وتحديد نظر، والتفصيلي مثل الذي يعبر عن الأشياء، والكتاب الذي كتب فيه تلك المسائل، وهذا لا يوجد عند الإنسان إلا في مسألة أو مسألتين. أما بالنسبة إلى كتاب فلا يقال :﴿وَعِندَنَا كِتَـابٌ حَفِيظُ ﴾ يعني العلم عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءاً جزءاً وشيئاً شيئاً، والحفيظ يحتمل أن يكون بمعنى المحفوظ، أي محفوظ من التغيير والتبديل، ويحتمل أن يكون بمعنى الحافظ، أي حافظ أجزاءهم وأعمالهم بحيث لا ينسى شيئاً منها، والثاني هو الأصح لوجهين أحدهما : أن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن، قال تعالى :﴿وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ (الأنعام : ١٠٤) وقال تعالى :﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ ولأن الكتاب على ما ذكرنا للتمثيل فهو يحفظ الأشياء، وهو مستغن عن أن يحفظ.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
وقوله تعالى :﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾.
رد عليهم، فإن قيل ما المضروب عنه، نقول فيه وجهان أحدهما : تقديره لم يكذب المنذر، بل كذبوا هم، وتقديره هو أنه تعالى لما قال عنهم إنهم قالوا ﴿هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ﴾ (ق : ٢) كان في معنى قولهم :/إن المنذر كاذب، فقال تعالى : لم يكذب المنذر، بل هم كذبوا، فإن قيل : ما الحق ؟
نقول يحتمل وجوهاً الأول : البرهان القائم على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم الثاني : الفرقان المنزل وهو قريب من الأول، لأنه برهان الثالث : النبوة الثابتة بالمعجزة القاهرة فإنها حق الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق، فإن قيل بين لنا معنى الباء في قوله تعالى :﴿بِالْحَقِّ ﴾ وأية حاجة إليها، يعني أن التكذيب متعد بنفسه، فهل هي للتعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة، كما في قوله تعالى :﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ ؟
(القلم : ٥، ٦) نقول فيه بحث وتحقيق، وهي في هذا الموضع لإظهار معنى التعدية، وذلك لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب، لكن النسبة تارة توجد في القائل، وأخرى في القول، تقول : كذبني فلان وكنت صادقاً، وتقول : كذب فلان قول فلان، ويقال كذبه، أي جعله كاذباً، وتقول : قلت لفلان زيد يجيء غداً، فتأخر عمداً حتى كذبني وكذب قولي، والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها، قال تعالى :﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشعراء : ١٤١) وقال تعالى :﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ﴾ (القمر : ٢٣) وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر، قال تعالى :﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ (الأعراف : ٦٤) وقال :﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾ (فاطر : ٤) إلى غير ذلك، وفي القول الاستعمال بالباء أكثر، قال الله تعالى :﴿كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كُلِّهَا﴾ (القمر : ٤٢) وقال :﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾ وقال تعالى :﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَه ا ﴾ (


الصفحة التالية
Icon