جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
وفيه وجهان أحدهما : أنه استدلال بدلائل الأنفس، لأنا ذكرنا مراراً أن الدلائل آفاقية ونفسية كما قال تعالى :﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ (فصلت : ٥٣) ولما قرن الله تعالى دلائل الآفاق عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال :﴿وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا﴾ (الحجر : ١٩) وفي غير ذلك ذكر الدليل النفسي، وعلى هذا فيه لطائف لفظية ومعنوية.
أما اللفظية فهي أنه تعالى في الدلائل الآفاقية عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال :﴿وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا﴾ وقال :﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَـارَكًا﴾ (ق : ٩) ثم في الدليل النفسي ذكر حرف الاستفهام والفاء بعدها إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس، وهذا من جنس، فلم يجعل هذا تبعاً لذلك، ومثل هذا مراعى في أواخر يس، حيث قال تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ﴾ (يس : ٧٧) ثم لم يعطف الدليل الآفاقي ههنا ؟
نقول والله أعلم ههنا وجد منهم الاستبعاد بقول ﴿ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ﴾ (ق : ٣) فاستدل بالأكبر وهو خلق السموات، ثم نزل كأنه قال لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز ذلك، وفي سورة يس لم يذكر استبعادهم فبدأ بالأدنى وارتقى إلى الأعلى.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
والوجه الثاني : يحتمل أن يكون المراد بالخلق الأول هو خلق السموات، لأنه هو الخلق الأول وكأنه تعالى قال :﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ﴾ (ق : ٦) ثم قال :﴿أَفَعَيِينَا﴾ بهذا الخلق ويدل على هذا قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ (الأحقاف : ٣٣) ويؤيد هذا الوجه هو أن الله تعالى قال بعد هذه الآية ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُه ﴾ (ق : ١٦) فهو كالاستدلال بخلق الإنسان وهو معطوف بحرف الواو على ما تقدم من الخلق وهو بناء السماء ومد الأرض وتنزيل الماء وإنبات الجنّات، وفي تعريف الخلق الأول وتنكير خلق جديد وجهان أحدهما : ما عليه الأمران لأن الأول عرفه كل واحد وعلم لنفسه، والخلق الجديد لم يعلم لنفسه ولم يعرفه كل أحد ولأن الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد والوجه الثاني : أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه، كأنهم قالوا أيكون لنا خلق ما على وجه الإنكار له بالكلية ؟
وقوله تعالى :﴿بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ﴾ تقديره ما عيينا بل هم في شك من خلق جديد، يعني لا مانع من جهة الفاعل، فيكون من جانب المفعول وهو الخلق الجديد، لأنهم كانوا يقولون ذلك محال وامتناع وقوع المحال بالفاعل لا يوجب عجزاً فيه، ويقال للمشكوك فيه ملتبس كما يقل لليقين إنه ظاهر وواضح، ثم إن اللبس يسند إلى الأمر كم قلنا : إنه يقال إن هذا أمر ظهر، وهذا أمر ملتبس وههنا أسند الأمر إليهم حيث قال :﴿هُمْ فِى لَبْسٍ﴾ وذلك لأن الشيء يكون وراء حجاب والناظر إليه بصير فيختفي الأمر من جانب الرائي فقال ههنا ﴿بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ﴾ ومن في قوله ﴿مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ يفيد فائدة وهي ابتداء الغاية كأن اللبس كان حاصلاً لهم من ذلك.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
وقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون ابتداء استدلال بخلق الإنسان، وهذا على قولنا ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِ ﴾ (ق : ١٥) معناه خلق السموات وثانيهما : أن يكون تتميم بيان خلق الإنسان، وعلى هذا قولنا الخلق الأول هو خلق الإنسان أول مرة، ويحتمل أن يقال هو تنبيه على أمر يوجب عودهم عن مقالهم، وبيانه أنه تعالى لما قال :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُه ﴾ كان ذلك إشارة إلى أنه لا يخفى عليه خافية ويعلم ذوات صدورهم.
وقوله ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾.
بيان لكمال علمه، والوريد العرق الذي هو مجرى الدم يجري فيه ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن والله أقرب من ذلك بعلمه، لأن العرق تحجبه أجزاء اللحم ويخفى عنه، وعلم الله تعالى /لا يحجب عنه شيء، ويحتمل أن يقال ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ بتفرد قدرتنا فيه يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩


الصفحة التالية
Icon