المسألة الثالثة : القائل ههنا واحد، وقال ﴿رَبَّنَا﴾ ولم يقل رب، وفي كثير من المواضع مع كون القائل واحداً، قال رب، كما في قوله ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ (الأعراف : ١٤٣) وقول نوح ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِى﴾ (نوح : ٢٨) وقوله تعالى :﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ﴾ (يوسف : ٣٣) وقوله ﴿قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ﴾ (التحريم : ١١) إلى غير ذلك، وقوله تعالى :﴿قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (ص : ٧٩) نقول في جميع تلك المواضع القائل طالب، ولا يحسن أن يقول الطالب : يا رب عمرني واخصصني وأعطني كذا، وإنما يقول : أعطنا لأن كونه رباً لا يناسب تخصيص الطالب، وأما هذا الموضع فموضع الهيبة والعظمة وعرض الحال دون الطلب فقال :﴿رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه ﴾.
وقوله تعالى :﴿وَلَـاكِن كَانَ فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ﴾.
يعني أن ذلك لم يكن بإطغائه، وإنما كان ضالاً متغلغلاً في الضلال فطغى، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الوجه في اتصاف الضلال بالبعيد ؟
نقول الضال يكون أكثر ضلالاً عن الطريق، فإذا تمادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصد كثيراً، وإذا علم الضلال قصر في الطريق من قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً، فقوله ﴿ضَلَـالا بَعِيدٍ﴾ وصف المصدر بما يوصف به الفاعل، كما يقال كلام صادق وعيشة راضية أي ضلال ذو بعد، والضلال إذا بعد مداه وامتد الضال فيه يصير بيناً ويظهر الضلال، لأن من حاد عن الطريق وأبعد عنه تتغير عليه السمات والجهات ولا يرى عين المقصد ويتبين له أنه ضل عن الطريق، وربما يقع في أودية ومفاوز ويظهر له أمارات الضلال بخلاف من حاد قليلاً، فالضلال وصفه الله تعالى بالوصفين في كثير من المواضع فقال تارة في ضلال مبين وأخرى قال :﴿فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ﴾.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿وَلَـاكِن كَانَ فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ﴾ إشارة إلى قوله ﴿إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الحجر : ٤٠) وقوله تعالى :﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ﴾ (الحجر : ٤٢) أي لم يكونوا من العباد، فجعلهم أهل العناد، ولو كان لهم في سبيلك قدم صدق لما كان لي عليهم من يد، والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٣
المسألة الثالثة : كيف قال ما أطغيته مع أنه قال :﴿لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ؟
(الحجر : ٣٩) قلنا الجواب عنه من ثلاثة أوجه وجهان : قد تقدما في الاعتذار عما قاله الزمخشري والثالث : هو أن يكون المراد من قوله ﴿لاغْوِيَنَّهُمْ﴾ أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة، فلا تتركها، يقال أنه يضله كذلك ههنا، وقوله ﴿مَآ أَطْغَيْتُه ﴾ أي ما كان ابتداء الإطغاء مني.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٣
١٤٣
ثم قال تعالى :﴿قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ﴾.
قد ذكرنا أن هذا دليل على أن هناك كلاماً قبل قوله ﴿قَالَ قَرِينُه رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه ﴾ (ق : ٢٧) وهو قول الملقى في النار ربنا أطغاني وقوله ﴿لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ﴾ يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يدي.
وقوله تعالى :﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ﴾.
تقرير للمنع من الاختصام وبيان لعدم فائدته، كأنه يقول قد قلت إنكم إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه، فإن قيل ما حكم الباء في قوله تعالى :﴿بِالْوَعِيدِ﴾ ؟
قلنا فيها وجوه أحدها : أنها مزيدة كما في قوله تعالى ﴿تَنابُتُ بِالدُّهْنِ﴾ (المؤمنون : ٢٠)، على قول من قال إنها هناك زائدة، وقوله ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ (النساء : ٦) وثانيها : معدية فقدمت بمعنى تقدمت كما في قوله تعالى :﴿عَظِيمَا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ﴾ (الحجرات : ١) ثالثها : في الكلام إضمار تقديره، وقد قدمت إليكم مقترناً بالوعيد ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ﴾ (ق : ٢٩) فيكون المقدم هو قوله، ما يبدل القول لدي، رابعها : هي المصاحبة يقول القائل : اشتريت الفرس بلجامه وسرجه أي معه فيكون كأنه تعالى قال : قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه بالإنذار.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٣
١٤٥
وقوله تعالى :﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ﴾ يحتمل وجهين :