فالأولى منها : ما معنى آخذين ؟
نقول فيه وجهان. أحدهما : قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. ثانيها : آخذين قابلين قبول راض كما قال تعالى :﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ﴾ (التوبة : ١٠٤) أي يقبلها، وهذا ذكره الزمخشري وفيه وجه ثالث : وهو أن قوله :﴿فِي جَنَّـاتِ﴾ يدل على السكنى فحسب وقوله :﴿ءَاخِذِينَ﴾ يدل على التملك ولذا يقال أخذ بلاد كذا وقلعة كذا إذا دخلها متملكاً لها، وكذلك يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليل أي تملكه، وإن لم يكن هناك قبض حساً ولا قبول برضا، وحينئذ فائته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو ضعف يسترد منه ذلك، بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله تعالى وقوله :﴿ءَاتَـاـاهُمْ﴾ يكون لبيان أن أخذهم ذلك لم يكن عنوة وفتوحاً، وإنما كان بإعطاء الله تعالى، وعلى هذا الوجه ﴿مَآ﴾ راجعة إلى الجنّات والعيون.
وقوله :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُحْسِنِينَ﴾ إشارة إلى ثمنها أي أخذوها وملكوها بالإحسان، كما قال تعالى :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى ﴾ (يونس : ٢٦) بلام الملك وهي الجنة.
المسألة الثانية :﴿ءَاخِذِينَ﴾ حال وهو في معنى قول القائل يأخذون فكيف قال ما آتاهم ولم يقل ما يؤتيهم ليتفق اللفظان، ويوافق المعنى لأن قوله :﴿ءَاتَـاـاهُمْ﴾ ينبىء عن الانقراض وقوله :﴿يُؤْتِيهِمْ﴾ تنبيه على الدوام وإيتاء الله في الجنة كل يوم متجدد ولا نهاية له، ولا سيما إذا فسرنا الأخذ بالقبول، كيف يصح أن يقال فلان يقبل اليوم ما آتاه زيد أمس ؟
نقول : أما على ما ذكرنا من التفسير لا يرد لأن معناه يتملكون ما أعطاهم، وقد يوجد الإعطاء أمس ويتملكاليوم، وأما على ما ذكروه فنقول الله تعالى أعطى المؤمن الجنة وهو في الدنيا غير أنه لم يكن جنى ثمارها فهو يدخلها على هيئة الآخذ وربما يأخذ خيراً مما أتاه، ولا ينافي ذلك كونه داخلاً على تلك الهيئة، يقول القائل : جئتك خائفاً فإذا أنا آمن وما ذكرتم إنما يلزم أن لو كان أخذهم مقتصراً على ما آتاهم من قبل، وليس كذلك وإنما هم دخلوها على ذلك ولم يخطر ببالهم غيره فيؤتيهم الله ما لم يخطر ببالهم فيأخذون ما يؤتيهم الله وإن دخلوها ليأخذوا ما آتاهم، وقوله تعالى :﴿إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ﴾ هو أخذهم ما آتاهم وقد ذكرناه في سورة يس (٥٥).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٩
المسألة الثالثة :﴿ذَالِكَ﴾ إشارة إلى ماذا ؟
نقول : يحتمل وجهين. أحدهما : قبل دخولهم لأن قولهتعالى :﴿فِي جَنَّـاتِ﴾ فيه معنى الدخول يعني قبل دخولهم الجنة أحسنوا. ثانيهما : قبل إيتاء الله ما آتاهم الحسنى وهي الجنة فأخذوها، وفيه وجوه أُخر، وهو أن ذلك إشارة إلى يوم الدين وقد تقدم. وأما اللطائف فقد سبق بعضها، ومنها أن قوله تعالى :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ لما كان إشارة إلى التقوى من الشرك كان كأنه قال الذين آمنا لكن الإيمان مع العمل الصالح يفيد سعادتين، ولذلك دلالة أتم من قول القائل أنهم أحسنوا. اللطيفة الثانية : أما التقوى فلأنه لما قال لا إله فقد اتقى الشرك، وأما الإحسان فلأنه لما قال إلا الله فقد أتى بالإحسان، ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى إنها لا إله إلا الله وفي الإحسان قال تعالى :﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ﴾ (فصلت : ٣٣) وقيل في تفسير :﴿هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ﴾ (الرحمن : ٦٠) إن الإحسان هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله وهما حينئذ لا يتفاصلان بل هما متلازمان. وقوله تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٩
١٧١
كالتفسير لكونهم محسنين، تقول حاتم كان سخياً كان يبذل موجوده ولا يترك مجهوده، وفيه مباحث :


الصفحة التالية
Icon